أحداث مهمة برزت في المشهد اليمني خلال الأيام الماضية مثلت تحولا في مسار الأزمة الرتيب، الذي ظل يراوح مكانه تقريبا لمدة سبع سنوات، من دون حدوث أي تغيرات جذرية يمكن أن تساهم في حلحلة الجمود الذي سيطر على مجريات الحرب والسلام في اليمن وضيق هامش الخيارات والتوقعات إلى أبعد مدى.
ومن أبرز تلك الأحداث عقد مشاورات الرياض، التي رعاها مجلس التعاون الخليجي، بين المكونات المنخرطة في الشرعية والتي أسفرت عن تشكيل مجلس قيادة رئاسي يضم رئيسا وثمانية أعضاء يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي في معسكر المناهضين للانقلاب الحوثي، إضافة إلى تصاعد الحراك الدولي والأممي والإقليمي حول الملف اليمني، وصولا إلى الإعلان عن مبادرة أممية تتضمن وقفا مؤقتا لإطلاق النار دخل حيز التنفيذ مطلع أبريل الماضي.
ويمكن إدراج مشهد هبوط أول طائرة مدنية تابعة للخطوط الجوية اليمنية في مطار صنعاء الدولي لأول مرة بعد توقف دام ست سنوات، كإحدى مظاهر التحول الجزئي في طبيعة المشهد وتكويناته وعناصره السياسية والعسكرية والاقتصادية، بالرغم من ارتباط هذا الحدث تحديدا بجولات وضغوط دولية وأممية متصاعدة سبقت وتلت ورافقت الإعلان عن الهدنة بين الحكومة اليمنية والحوثيين، لكنها لم تسفر حتى الآن عن الكثير من النتائج المأمولة من هذه الهدنة التي شارفت على الانتهاء.
وفي حقيقة الأمر تشير المعطيات المتوفرة حتى الآن، حول مصير ومستقبل الهدنة التي ألقت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بكل ثقلهما لمنع انهيارها، إلى أن الطابع الإعلامي ما زال مهيمنا على هذه الهدنة الهشة من الناحية العسكرية، بالنظر إلى حجم الاختراقات اليومية لها، وكذلك من الناحيتين السياسية والإنسانية، حيث لم يلتزم الحوثي بالشق الإنساني المتعلق به والخاص برفع الحصار عن تعز، إلى جانب التعثر التام في إتمام صفقة تبادل الأسرى وتعطل خطوات المضي قدما في بعض جوانب التطبيع الاقتصادي وتوحيد البنك المركزي اليمني وإعادة صرف رواتب الموظفين في مناطق سيطرة الانقلاب، وهي الأمور التي إن تمت ستلقي بظلالها المباشرة على حياة اليمنيين المعيشية.
وعلى الرغم من وجاهة ومنطقية المبرر الإنساني في النظر إلى قضية تشغيل مطار صنعاء، لما لذلك من أثر في تخفيف أعباء السفر على اليمنيين في مناطق سيطرة الحوثي، إلا أن هذا الجانب المشرق هو وجه وحيد بين عدة وجوه دسها الحوثيون بين ثنايا الاتفاق لتمرير أهداف سياسية وأمنية تحت لافتة المعاناة الإنسانية التي كانوا هم المتسبب الأول فيها، والقائمة تبدأ من مطار صنعاء الذي صوروا إعادة افتتاحه كانتصار سياسي وليس إنساني، ولا يقف الأمر عند معاناة اليمنيين أنفسهم في مناطق أخرى بات السفر والتنقل بينها أصعب من السفر إلى خارج اليمن.
ومن هنا تحديدا تبرز العديد من التساؤلات الشعبية اليمنية التي تضع الجهود الأممية على مقصلة الانحياز والبحث عن مكاسب دبلوماسية، فبعد أن نجحت الجهود الأممية في تقليص مسافة السفر بين صنعاء وعمّان من 48 ساعة إلى ثلاث ساعات تقريبا، يتساءل اليمنيون اليوم: هل ستنجح هذه الجهود كذلك في إعادة مدة الرحلة بين تعز والحوبان، إحدى ضواحي المدينة الخاضعة لسيطرة الحوثيين، التي تستغرق اليوم من 6 إلى 8 ساعات (بسبب الحصار الحوثي) إلى 10 دقائق كما كانت سابقا؟
ويبقى الرهان الحقيقي في مسيرة الهدنة الأممية هو تحويل فتح مطار صنعاء إلى انتصار إنسانيا لليمنيين البسطاء، ممن دفعوا ثمن الانقلاب الحوثي وتداعياته، والعمل على تحرير هذا الانتصار من أجندة الحوثيين السياسية والأمنية، بحيث يبقى هذا الإجراء مكسبا لليمنيين، وليس ربحا في مساومة الحوثي الذي يسعى لتوظيف معاناة المتضررين من انقلابه المسلح ومغامراته العسكرية وارتهان قراراه بإيران، لتحقيق مكاسب سياسية لا تنسحب حتى على القابعين في مناطق سيطرته أو تلك المناطق التي يشدد الحصار عليها ويستهدفها بطائراته المسيرة وصواريخه.
كما يجب ألّا تتحول الضغوط الدولية النابعة من حرص مفرط على منع انهيار الهدنة، إلى وسيلة لتعطيل مفاعيل القرارات الأممية والقوانين الدولية النافذة وميثاق الأمم المتحدة ومعايير الدبلوماسية الدولية، أو تحويلها إلى نموذج مكرر لهدنة الحديدة التي نتجت عن مشاورات السويد، التي لم ينفذ منها عمليا إلا الجزء الذي يخص منع استكمال مدينة الحديدة بينما تعثرت كل البنود الأخرى التي كانت ضمن حزمة الاتفاق الذي رعته الأمم المتحدة في العام 2018.
وفي هذا السياق تجب الإشارة إلى ملـمح هام خرج من رحم الاندفاع الأممي ربما غير المدروس وغير الواعي للرغبة الملحة في إعادة تشغيل مطار صنعاء، فيما يبدو استجابة للابتزاز الحوثي وحتى إن تعارضت تلك المطالب الحوثية مع أبسط معايير القوانين الدولية أو القرارات الأممية والمرجعيات ذات الصلة باليمن، وأعني هنا تشبث الحوثيين بمسألة منح وثائق سفر للمغادرين عن طريق مطار صنعاء، وهو إجراء لا يمت بصلة لمسألة إعادة تسيير الرحلات من المطار الخاضع لسلطات الانقلاب، والتي جاءت لدواع إنسانية بحتة كما تقول الأمم المتحدة والدول الفاعلة في الملف اليمني، بل رغبة في شرعنة أحد مظاهر الانقلاب.
وقد استطاع الحوثيون، للأسف، من خلال سلسلة من التصريحات والمواقف المتعنتة توجيه دفة الضغوط الأممية مرة أخرى نحو الحكومة الشرعية لانتزاع موافقة منها على السماح باستخدام وثائق السفر الحوثية المزيفة، وتصوير هذا الأمر بأنه إجراء مؤقت ذو طابع إنساني، بينما تقول الوقائع على الأرض، بعد تسرب أنباء عن رفض القاهرة استقبال اليمنيين القادمين بوثائق سفر صادرة عن الجماعة الحوثية، إن محاولة الأمم المتحدة “شرعنة” هذه الوثائق أتت بأثر عكسي تماما، وجعلت بعض الدول التي كانت تغض الطرف عن الجوازات الصادرة من الحوثيين لدواع إنسانية، تبدو أكثر تشددا في فحص وثائق السفر اليمنية اليوم، وهو ما يؤكد أن التخبط الأممي في اليمن لا يولد سوى المزيد من الأزمات!
والخلاصة هي أن أمر وثائق السفر لم يكن أمرا يمس الشرعية اليمنية وحدها، كما كانت تعتقد الأمم المتحدة حينما مارست ضغوطا للموافقة على سفر اليمنيين بجوازات صادرة من الحوثي، بل أن الأمر يحمل أبعادا أكبر من ذلك بكثير، فمثل هذا الإجراء يمس في المقام الأول سيادة وأمن الدول التي ستستقبل المسافرين بهذه الوثائق المزورة، التي لو قبلت اليوم بجوازات صادرة عن ميليشيات الحوثي في صنعاء ربما ستقبل غدا بجوازات صادرة عن حزب الله اللبناني أو الحشد الشعبي في العراق!.