في سنه ٢٠٠٥ عندما وصلت برلين أردت أن أتخصص في تاريخ اليمن الاقتصادي، وكنت قد قررت أن أعمل رسالة دكتوراة عن دور شركات الهند الشرقية البريطانية والهولندية والفرنسية في تجارة البن، ولكن للأسف لم أجد برفسوراً مشرفاً على الموضوع، والبرفسورة التى تمكنت من التواصل معها لم ترحب بالموضوع لأن وثائقه في بريطانيا وليس في ألمانيا فاقترحت عليّ تغيير الموضوع.
وبعد تفكير طويل وصعب قررت أدرس الاقتصاد اليمني في عهد الأئمة من ١٩١٨ الى ١٩٦٢. وافقت البرفسورة على الموضوع وطالبتني بالعودة إلى اليمن وجمع الوثائق.
وفعلا عدت ثلاث مرات إلى اليمن وفتحت السجلات وشفت وثائق لا تعد ولا تحصى وصورت بعضها ونقلت البعض الآخر باليد. شهور طويلة وعمل مضنٍ للغاية.
المهم، بعد دراسة طويلة اكتشفت شيئاً خطيراً جداً: لا يوجد أي اقتصاد، لا يوجد أي تنمية، لا يوجد أي مشاريع، لا يوجد هيكل اقتصادي أو تنموي أو مالي، لا يوجد استثمارات، لا يوجد تجارة أو زراعة أو صناعة بالمعنى الحديث. يوجد فقط جبايات.
جبايات باسم الزكاة، جبايات باسم المكوس والضرائب، جبايات باسم الجهادية، جبايات باسم الجرم والغرم، جبايات باسم الأدب...
كتبت أول فصل للبحث المالية وبعد مدة اكتشفت أنه لا يوجد شيء سوى جمع المال فقط.
المهم أخبرت البرفسورة بما وجدت واقترحت عليها تغيير اسم رسالة الدكتوراة. وافقت البرفسورة على تغيير اسم الرسالة الى النظم المالية للأئمة في اليمن من ١٩١٨ الى ١٩٦٢.
وبعد الموافقة على تغيير الموضوع قررت أذهب الى أبعد نقطة في تاريخ الأئمة في اليمن منذ وصول الهادي الرسي إلى البلاد.
لقد كانت المفاجأة صادمة للغاية .. اليمن أصبحت ملكاً لهم أرضاً وإنسانا...
يفلح الإنسان اليمني الأرض فيأخذون الغلة، يربي الماشية فيأكلون اللحم ويأخذون البيض ويجمعون الحيوانات لأنفسهم.
لاحقوا الفلاح الفقير على نفر القمح وحبات الدجاج وسمن البقر اليسير.
كان أول طلب للهادي الرسي من أهل صنعاء في سنة ٢٨٤ هجرية تسليم الزكاة له وبعد أن رفضوا، قال في محاولة منه لتخويفهم، إنه سيدعو عليهم بالفقر حتى يبيعون زوجاتهم بالدرهم والدينار!!
عشرات الأئمة الظلمة القساة العتاة اللصوص أفقروا اليمنيين أكثر من ١٢٠٠ سنة. وأدخلوهم في حروب الخروج على الحاكم الظالم، وكل فريق منهم يخرج على الآخر ويقاتل باليمنيين أقرانه الهاشميين طالبي السلطة والمال.
لم يتركوا لليمنيين حياةً ولا معاشاً ولا مالاً حتى هاجر اليمنيون إلى أصقاع الأرض هروبا من عسفهم الذي أسسوا له فقهيّاً والتى تجوز لهم أخذ المال بأي وجه من الوجوه حتى لو بالقتل.
وليس أدل على ذلك من فتوى الإمام الأهم في الدولة القاسمية، المتوكل على الله إسماعيل، الذي أصدر فتوى "إرشاد السامع في جواز أخذ أموال الشوافع"، وبرر ذلك بأنهم "كفار تأويل"! وعندما عارضه القاضي الحسن الجلال بأن ذلك لا يجوز وأنه يستوجب عقاب الله رد عليه الإمام المتوكل بأن الله "لن يعاقبني إلا على ما تركت لهم". هكذا بكل صلف!
وعندما قامت دولة الإمام يحيى نزع آخر نفر حَب وآخر بيضة وآخر عصرة كراث من أفواه أكثر الشعوب فقرا وجوعا ومرضا بالقوة والقسر والإجبار والعسف. وعندما كانت تعجز بعض القبائل عن استيفاء مطالب الإمام الباهظة كان يرسل عليهم جنوده "خطاط"، ينامون في منازلهم ويأكلون ما بقي من طعام أطفالهم ويشربون ما بقي في ضروع أبقارهم الجافة من حليب.
هكذا تعامل أئمة بيت حميد الدين مع اليمنيين.