فهمي غانم
عدن.. إستلهام الصورة !
الأحد 24 ابريل 2022 الساعة 00:52

عدن حاضرةُ اليمن واسفاره في الخمسينات والستينات، لم تمتطِ جيادَ المعاني غروراً بل قدرةً واقتدارا.. كانت درّةَ الجزيرة والخليج وفسيفساءَ عصرها تمثل إلهاماً لكل من أراد أن يحجز له مقعداً تحت الشمس..

هنا نتلمسُ عروقَ الذهب الذي بلورته التجارب يتمازجُ فيها كلُّ التنوع الثقافي فجعلت منه حافزاً أخرجها من شرنقة الإحتباس البيئي الى مدارك الأفق العالي التي أرادت ان تكون فيه.. 

لم تكن عدن منكمشةً على نفسها بل طرحت مشروعها الثقافي للتدّاول وارتقت بذلك سلّم أولويات الصعود إلى القمة، لقد بلغتْ سمعتها الآفاق وبرسم المستقبل حجزت لها مقعداً بين الأمم فسقفها عالٍ لا تقبل بأنصاف الحلول، فقد اكتملت دائرتها وأصبحت قطباً مغناطيسياً جاذباً تدور الافلاك حوله كتاهٍ يبحث عما ينقصه بعد ان استشرى روحها وطبعها بين الباحثين عن مجدٍ لهم او دورٍ أفتقدوه في دول الشتات.. 

ولنأخذ عيّنةً من خلّية عدن ونسيجها خلال تلك الفترة لنكتشف ان النظرةَ اعطت لنا مدى التطابق البيني بين خيوطِ هذا النسيج وبرهنتْ أيضاً أنَّ الخليةَ في تمام عافيتها وسلامتها.. واقصد به مجتمعها المدني وتعبيراته المختلفة السياسية والاصلاحية والنقابية والثقافية وكل النشاط المدني الآخر الذي جاء متوافقاً مع سنن هذه المدينة الخاصة بها الذي أفرزته من وحي إجتراحاتها ووحي اللحظة الإبداعية ومتوالياتها على صعيد تحقيق الذات الخاصة بها وإبراز الشخصية العدنية المكتملة الشكل والمعنى.. 

لقد كان العمل السياسي هو الأبرز بحكم ظروف المحتل، وشكلت الأحزاب والجمعيات والمسميات الاخرى مناطق خاصة للإشتباك وأخرى للتلاقي والافتراق وكان يتمُّ ذلك على سطح صفيحٍ ساخن سرعان مايهدأ ويبرد لأنّ هناك حدود للتصعيد وأخرى للتهدئة في تقاطعات هذا الميدان او ذاك، والمناورة على قاعدة الإختلاف مطلوب اذا كان الهدف مرغوب.. وان الاختلافَ لا يفسدُ لحبِّ عدن قضية..

بهذه القيمة وغيرها كان المجتمع يتعافى ويتطور وسرعان مايرمّم الأجزاءَ المهترئةَ منه بسرعة ويقاومُ السقوط في مستنقع الهاويةِ العمياء ومفرداتِ العنف والسبِّ والقذف والحطِّ من شأن الآخرين.. فالملعبُ نظيف ومُتاحٌ للجميع وفق نظرية الأواني المستطرقة كلٌ يمتلئ إناءه حسب حجمه وقدرته..

لقد كانت الجمعية العدنية والجمعية الإسلامية ورابطة أبناء الجنوب وحزب الشعب الاشتراكي والجمعية اليمنية الكبرى وحركة الاحرار الدستورية والجبهة الوطنية المتحدة والمؤتمر الدستوري ومنظمة التحرير والجبهة القومية وجبهة التحرير والتنظيم الشعبي وحزب البعث العربي والناصريون وحتى اليسار الوطني والمستقلون والنقابات المهنية المتعددة، المؤتمر العمالي والنقابات الست والأندية الثقافية والرياضية والجمعيات الخيرية  والجمعيات الأهلية الخدمية.. كلٌها شواهد وتعبيرات لحالةِ صحوةٍ مستدامة وطقسٍ ربيعي دائم ومناخٍ معطاه ولّدَ حالة من الامتزاج والتفاعل والتأثير والتأثر المتبادل بين مكونات هذه الطلائع..

كان الوضعُ اشبه بتدوير سياسي رافض سياسة الأمر الواقع ورفض جعل القضية الوطنية في جيب المندوب السامي..
هذا التنوّع السياسي رافقه وتزامن معه بنيانٌ اقتصادي شُيدَ على قاعدة الاقتصاد الحر وإطلاق المبادرات الفردية الغير مقيدة إلاّ بالقانون، فرُسمت الصورةُ بحرفية ومهنية مراعاة لقانون السوق الاقتصادي ومعادلة العرض والطلب فكان العقلُ والتخطيط والمصلحة عملاتُ التداول الرئيسة لجذبِ إنتباه العالم واهتمامه فشُيدتْ لنفسها ما يشبه الإمبراطورية الاقتصادية بملامحها
 العدنية، بدءً بمصافي الزيت  وميناءها الحر قبلةُ التجارة العالمية، محطة لإعادة تدوير التجارة والخدمة الملاحية، بأداءٍ تنافسي محسوب الكلفة حتى غذت عدن هونج كونج العرب والميناء الابرز في العالم بعد ميناء نيويورك.

وفي هذا بالذات نستطيع التاكيد ان عدن سبقت زمنها ساعدها في ذلك وضعها الجغرافي الممتاز الذي وفرّ لها حمايةً إضافية طبيعية وإمداد لوجستي على نحوٍ ناعم فقرّبها من خطوط الملاحة العالمية وطبيعة ثقافية مجتمعية غير طاردة للآخر مكنها من تبؤّ سدّة العرش الملاحي عالمياً وبإمتياز..

كان هذا جزءً من صورة الواجهة المدنية، لكنه لم يخفِ أيضاً حراك ثقافي وإعلامي راقي الاداء ومخرجاته أصّلَ الدور الحضاري للمدينة الفاضلة فالصحف والمجلات والدوريات وثمار المطابع لم تنقطع.. كان سيلاً هادراً محملاً بالطمي الفكري والإبداعي والفني والمسرحي، حتى صارت عدن نضارة الدنيا وقافييتها الشعرية والأدبية والثقافية..

إجمالاً كانت عدن سوق عكاظ اليمن، فقد حجز ابو تمام والبحتري والمتنبي وابو العلا المعري، مقاعدهم في جوف المدينة وتسابقَ أفلاطون وسقراط وابن رشد والغزالي والكندي وابن العربي والفارابي الى حلباتها ليتباروا الحجةَ بالحجة والقولَ بالقول والمزحةَ بالمزحة حتى رابعة العدوية ملهمة المتصوفين وسابقتهم في حبِّ الله حلّت بأسفارها صوب زوايا وتكايا المدينة تنثرُ فلسفةَ التصوّف والوجود من أقانين الكلام روحاً للتسامي..

وعموماً فإنّ عدن لن تكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ، فما زال بالعرق دمٌ وحياة..

المقالات