عبداتي بوشعاب
التلفزيون في خطر
السبت 9 ابريل 2022 الساعة 00:09

قد يبدو عنوان هذا المقال صادما لفئة من القراء الذين يعتبرون أنفسهم من جمهور «جهاز التلفاز» الأوفياء، إلا أنه ليس كذلك بالنسبة إلى الكثيرين ممن بدأوا ومنذ سنوات يعتمدون على «وسائل أخرى» في متابعة العُروض السمعية البصرية. 

نركز أولا انتباهنا على سنة 1926 التي اخترع فيها الأسكتلندي جون بيرد اختراعا تاريخيا غيّر وجه العالم، خاصة بعد أن ساهم العديدُ من العلماء في تطويره، كان من أبرزهم الأميركي فلاديمير زُوريكين الذي عرض أول نظام إلكتروني تلفازي كامل سنة 1929، عن طريق الإيكونوسكوب وهو صمام الصورة في أجهزة استقبال التلفاز [1]. وبعد أن اكتملت صناعة هذا الجهاز العجيب – آنذاك – ساهم في تغطية الحروب والكوارث الطبيعية والتظاهرات العالمية؛ كاجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وبطولات كأس العالم لكرة القدم والألعاب الأولمبية.

بعد الحرب العالمية الثانية؛ أي خلال الأربعينات بدأ التلفاز يؤدي دوره في إخبار العالَم بما حدث في هذه المأساة، كما وشرع في عرض الموادّ المرِحة كأفلام الكرتون والسيرك، فازداد جمهوره على الأقل في الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وروسيا وألمانيا وفرنسا، ثم في أوروبا الغربية إذ كان الناس مفتونين بهذا الصندوق السحري! أما في فترتي الخمسينات والستينات التي عرفت التلفاز المُلوَّن، نجد أنه وصل أخيرا إلى بلاد العرب؛ فتم إنشاء القنوات الوطنية التي بدأت عملها أولا في العراق عام 1954، والجزائر 1956 ولبنان 1957 ثم مصر 1959 فالمغرب 1962[2].

استمر التلفاز في تقديم المحتوى الترفيهي في السبعينات والثمانينات بالاعتماد على برامج المسابقات الكبرى والنقل المباشر لأهم الأحداث العالمية. وبدأت العقلية التجارية في الغرب تسيطر على الشبكات الإعلامية، فتمَّ التوجه إلى استثمار القصص التاريخية والاجتماعية والرومانسية وأدب الأطفال لصناعة مسلسلات درامية وكرتونية ستلقى إقبالا جماهيريا واسعا في العالم، لتزدهر في ما بعد حركة الترجمة التلفزيونية من خلال دبلجةِ المسلسلات الإنجليزية واللاتينية إلى معظم اللغات حتى تُعرض على الشّاشات الوطنية المحلية. 

وسيساهم اختراع جهاز التحكم عن بعد وجهاز التسجيل «الفيديو» في تعلق المشاهدين بالتلفاز؛ حيث سيُمكّنهم الابتكار الجديد من استئجار أو شراء الأفلام ومشاهدتها في الأوقات التي تلائمهم، بل سيمكّنُهم جهاز التسجيل هذا من توثيق أهم لحظات حياتهم كحفلات عقد القِران وأعياد الميلاد..

كما سيرفع استخدام الأقمار الاصطناعية من رُقي التلفاز وازدهار البث الذي سينتقلُ من بث أرضي تقليدي إلى بث فضائي مُبتكَر. وهي كلها تَقَدُّماتٌ وإبداعات تقنية ستزيد من اندهاش الناس وانبهارهم أكثر فأكثر به. إلا أنه سيخوض معركة وجوديّة بدأت منذ منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، وما تزال مستمرة إلى اليوم؛ إذ سيغدو محاصرا بين غزو الإعلان ومنافسة اليوتيوب وهيمنة مواقع التواصل وتهديد المنصات الرقمية المدفوعة.

غزو الإعلان

في التسعينات كان التلفاز قد انتشر في العالم بأسره، فلم يبقَ بيتٌ على المعمورة تقريبا بدونه. ونتيجة لذلك؛ تطوّر النقل المباشر لأهم الأحداث الوطنية والقارية والعالمية، وانتعشت البرامج الحوارية والعروض الرياضية واستحوذت مسلسلات الجريمة على أعلى نسب المشاهدة؛ النِّسبُ التي بدأت تلفت الانتباه وتُغازِل المُعلنين الذين استغلّوا نجاح الجهاز لإغواء المشاهد باعتباره – بالنسبة إليهم – مُستهلكًا ينبغي أن تصل إليه المُنتجات في قالبٍ مسموع مرئي شيق يجذبه لاقتناء السِّلعة.

سيدخل التلفاز مع المعلنِين مرحلةً جديدة من تاريخه، مرحلةٌ غزا فيها الإشهار منازل المشاهدين، فأصبحت الإعلانات تأخُذ حيِّزا ملحوظًا من وقت العرض، وأضحت تتخلل المواد المقدَّمةَ من وثائقيات وتمثيليات وبرامج متنوعة، بل باتت تحتل مساحة أكبر من البثّ، وهي مسألة لا يُخفي جمهور التلفزيون امتعاضه وتذمره منها.

ارتبطت الإعلانات في بداياتها بالقنوات التِّلفازية الخاصة لا العمومية، وكانت مدّتها – على سبيل المثال – لا تقل عن دقيقة ولا تزيد عن الخمس، وذلك بين فترات عرض البرامج أي بعد نهاية برنامج ما وقبل بداية آخر. غير أن الإشهار سيعرف طفرةً غير مسبوقة بالموازاة مع ظهور نظرياته ونموِّها (القيميّة، الاجتماعية، النفسية، الاقتصادية، السلوكية) وهي النظريات التي ستحضُر بشكل متفاوت في الخطاب الإشهاري، والهدف منها جميعها وإن تباينت خلفياتها إيهام المشاهد/المستهلك بضرورة شراء المنتَج لأنه بحاجة إليه[3]. 

لقد بدأ التلفاز بالنسبة إلى المعلنين أفضل وأسهل وسيلة إشهارية بالرغم من تكلفته الباهظة، لأنه الأنجح في إيصال الرسالة الإعلانية لملايين المشاهدين. فغدت الإعلانات تتخلل العروض، فيحدث أن يتوقف بث البرنامج التلفزيوني لإتاحة دقائق كثيرة لعرضها وتكرارها، ممّا أدى بالفعل إلى انزعاج المشاهدين وشعورهم بالتغيُّر الواضح الذي طرأ على توجهات التلفاز، حيث تحوّل من وسيلة إعلامية وتثقيفية وترفيهية إلى وسيلة تجارية تتحكم فيها العقلية الاقتصادية لكبريات الشركات والمقاولات.

ولم يبق الإعلان حكرا على القنوات الخاصة، بل توجَّه إلى القنوات الوطنية المحلية، فهي الأخرى تبحث عن مصادر تمويلية تساعدها على تجديد أستوديوهاتها وتطوير خدماتها الإعلامية. 

كما تطور الإعلان إلى أنواع متعددة من أبرزها الإعلان الضمني الذي يكون عبر وضع المنتَج التجاري داخل نسيج المواد التلفازية المعروضة؛ كارتداء مقدّمي البرامج الحوارية ماركة ساعات معينة، أو ظهور طراز محدد من السيارات بشكل متكرر في عدد من المسلسلات.

وبالتالي سيُشكل غزو الإشهار للتلفاز عاملا سلبيا في تقهقره ونفور ملايين المشاهدين الذين سئموا توقف بث برامجهم المفضلة لإعادة عرض الإعلانات نفسها ولمدد طويلة، حتى وإن استعان المعلنون بالنجوم الرياضيين والسينمائيين وغيرهم ممن يتمتعون بقواعد جماهيرية كبيرة في إشهار منتجاتهم.

منافسة اليوتيوب وهيمنة مواقع التواصل

بالرغم من سخط المشاهدين على غزو الإشهار، إلا أن تطوّر المحتويات التلفازية سيستمر بالموازاة مع تطور أشكاله وأنواعه وأحجامه في الألفية الثالثة. وهي الحِقبة التي سيعرف عِقدُها الأول اختراعاتٍ جديدة ترتبط بشبكة الويب التي انطلقت عام 1989 من القرن الماضي، بفضل البريطاني تيم بيرنرز لي. 

اختراعاتٌ توفِّر المواد المسموعة المرئية على الحاسوب بكيفية تشبه التي يقدم بها التلفاز عروضه. كان أولها «موقع يوتيوب» الذي اخترعه الثلاثي ستيف تشين، تشاد هيرلي، جاود كريم، وثانيها موقع فيسبوك على يد مارك زوكربيرغ بدءًا من سنة 2004. 

ثم ظهور مواقع أخرى كتويتر وإنستغرام وغيرها كثير [4]، والتي آل الولوج إليها سهلا بعد تحويلها إلى تطبيقات يتم تنزيلها على الحواسيب الشخصية والهواتف الأندرويد.

لا يخفى على أحدٍ في عصرنا الراهن أن الموقع الأحمر الذي ظهر سنة 2005، بدأ يُنشئ قاعدة متابعين توسعت مع  مرور السنوات وانتشار شبكة الويب وتغطيتها تقريبا كل أرجاء الكرة الأرضية، كما استفاد “اليوتيوب” من تطوير الاختراعات التكنولوجية الحديثة التي يشتغل عليها الموقع، وهي الحواسيب والهواتف المحمولة. ففي العقد الأول أرسى الموقع مكانته وانتشر عبر شبكة الويب، أما في العقد الثاني فاستقطب فئات عريضة جدا ومتنوعة من المتابعين، أهمها الأجيال التي فتحت أعينها على النهضة التكنولوجية الراهنة بمعنى مواليد نهاية التسعينات وبداية الألفية. 

إضافة إلى جمهور التلفزيون الذي بات يفضل متابعة العروض دون فواصل إعلانية طويلة، وقد وجد ضالته في «اليوتيوب» الذي يتيح مشاهدة البرامج المتنوعة، من مناظرات سياسية وتحقيقات استقصائية وملخصات مباريات كرة القدم وتمثيليات وغيرها بلا توقف. بل يتيح أيضا إمكانية تنزيل هذه العُروض ومشاهدتها في وقت لاحق.

ونعتقد أن ما جعل القنوات التلفزية، تنشئ قنوات يوتيوبية خاصة بها على موقع يوتيوب، وحسابات تفاعلية على فيسبوك وتويتر وإنستغرام.

بل تعدّت ذلك إلى إنتاج برامج تفاعلية مع هذه المواقع كما فعلت قناة «الجزيرة الرئيسية» في برنامج نشرتكم، وقناة «بي بي سي عربي» في برنامج «ترندينغ». هو الاعتراف بالنجاح الهائل لهذه المواقع التي أضعفت نسب المشاهدة التلفزية من جهة، وعدم الاستسلام للهزيمة من جهة أخرى، ثم شعور مجالس إدارة القنوات الخاصة والعامة بضرورة التوجّه لجميع فئات الجمهور عبر أيِّ وسيلة جديدة تستقطب المشاهدين وتشكل خطرا على مكانة التلفاز في الوسط الإعلامي.

ولأن الحياة لا تستمر إلا بالتغيير؛ ستحتدم المنافسة بين جهاز التلفاز ومواقع التواصل عموما واليوتيوب تحديدا، لاسيما بعد انتشار ظاهرة صُنّاع المحتوى «Content makers» حيث إن بعض هذه القنوات اليوتيوبية المستقلة تحصل على مشاهدات بالملايين، وبالتالي يستفيد أصحابها من أرباح مالية كبيرة جدا. فأصبح اليوتيوبر «youTuber» يأخذ مكان الإعلامي التقليدي، وأضحى المحتوى الرائج يزيح برامج التوك شو «Talk Show»، وأمسى موقع اليوتيوب يتفوق على جهاز التلفاز لأن مساحة التعبير فيه أرحب وحرية الرأي أكبر، عكس التلفاز المليء بالأيديولوجيات المفروضة والإعادات المملّة والإعلانات السخيفة.

تهديد المنصات الرقمية

بالرغم من كونها منصات مؤدّى عنها ومدفوعة بمقابل مادّي، إلا أنها أضحت الملاذ المفضل للملايين من المشاهدين، الهاربين من سطوة الإشهار ورتابة البرمجة التلفزية التي لم تستطع التكيُّف مع متغيرات القرن الحادي والعشرين [5]، فالجمهور لم يعد يملك الكثير من الوقت لمتابعة البرامج في أوقات محددة سلفا للعرض، خاصة وأن السرعة صارت سمة الفترة الراهنة. في المقابل تُمكِّنه المنصات الجديدة من الولوج إليها في أي وقت يلائمه، وعبر أي جهاز ذكي سواء شاشة أو حاسوب أو لوحة أو هاتف.

لنأخذ على سبيل المثال المنصتان الأميركيتان “نتفليكس”   (Netflix) و”هولو” (Hulu)؛ إذ في سنة 2007 أطلقت شبكة “نتفليكس” خدمة البث الحي «streaming»، وفي عام 2010 بدأت بالتوسع في تقديم خدماتها حول العالم، ومنذ سنة 2013 شرعت في إنتاج الأفلام والوثائقيات والتمثيليات من مسلسلات سياسية واجتماعية وسلسلات كوميدية ورومانسية أصلية خاصة بها كاستراتيجية لجذب المستخدمين الجدد باستمرار، بالإضافة إلى توفير المحتوى غير الأصلي. حتى غدت الشبكة الأولى عالميا في خدمات بث الفيديو عبر الإنترنت بعدما وصل عدد مشتركيها عام 2021 إلى 200 مليون مشترك.

وتعدُّ منصة “هولو” شبكة رائدةً في تقديم المحتوى الترفيهي المبهر،  وبالرغم من امتلاكها مجموعة متواضعة من البرامج والأفلام والمسلسلات الأصلية التي بدأت إنتاجها مطلع سنة 2011، مقارنة بشبكة “نتفليكس”، فإنها تتميز عنها بخاصية نقل الأخبار العاجلة وأهم الوقائع العالمية كالأحداث السياسية والرياضية والكوارث الطبيعية الطارئة. كما تضمن لمشتركيها مشاهدة العروض التلفزيونية بعد عرضها الأول بأربع وعشرين ساعة على كبريات القنوات العالمية المشفَّرة والمفتوحة. وقد وصل عدد مشتركيها سنة 2020 إلى ما يقارب 36 مليون مشترك.

ختاما، إنه عصر المشاهدة الحُرّة التي توفرها مواقع التواصل وأهمها في هذا الصدد “اليوتيوب”. وعصر المشاهدة وفق الطلب التي تضْمنها منصات المحتوى المدفوعة وأبرزها “نتفليكس”.

لذا فإنه من الواقعي أن نسجِّل خلاصة نحسِبها مهمة، وهي أن القائمين على سياسات البرمجة والإنتاج في قطاع التلفزيون، يتعين عليهم ابتكار طرائقَ جديدةٍ للعرض ومواكِبةً للتطوراتِ المستمرة في مجال الإنتاج السمعي البصري.

كما ويتوجبُ عليهم التعامل بحذر مع الإعلان الذي تحول من نعمة على التلفاز عبر الاستفادة من تكلفته، إلى نقمة أدّت إلى هجرة المتابعين من أمام الشاشات الصغيرة والبحث عن وسائل أخرى أكثر أريحية.

مراجع:

[1] جون كورن، التلفزيون والمجتمع: الخصائص – التأثير- النوعية – الإعلانات. ترجمة أديب خضر. سلسلة المكتبة الإعلامية، العدد 15، دمشق 1999، ص ص 24 – 28.

[2] حبيب الراوي، تاريخ الإذاعة والتلفزيون في العراق. منشورات وزارة التعليم العالي، دار الحكمة للطباعة، بغداد 1992، ص 95.

[3] حميد لحميداني، مدخل لدراسة الإشهار. مجلة علامات، العدد 18، مكناس 2002، ص 76 وما بعدها.

[4] ميمي محمد، شبكات التواصل الاجتماعي: النشأة والتأثير. مجلة كلية التربية، جامعة عين شمس، العدد 24، الجزء 2، القاهرة 2018، ص 215 وما بعدها.

[5] ريهام سامي، البث التلفزيوني عبر الإنترنت. مجلة البحوث الإعلامية، كلية الإعلام، جامعة الأزهر، العدد 55، المجلد 3، القاهرة أكتوبر 2020، ص 1777 وما بعدها.

المقالات