د. مروان الغفوري
"الرقم قوة"، كما تعلمنا من تشوميسكي. عدا في هذه الجائحة التي علقنا بداخلها. الأرقام تكاد لا تقول سوى الشيء البسيط، وفي قولها غموض. نواجه جائحة كلاسيكية [إحصائياً: حدث وباءان إلى أربعة أوبئة كل قرن .. خلال القرون الخمسة الماضية]، لا تساعدنا الأرقام العارية على الإمساك بالمعضلة، ويستحسن تطوير نماذج تخيل أفضل. حتى النماذج التي كانت فعالة قبل أسبوعين لم تعد صالحة اليوم. مثلاً: أصبح من الصعب تجديد مناطق هاي ريسك [الخطر الأعلى]، وهو ما كان متاحاً قبل شهر. النماذج التي اعتمدت سابقاً على هذا التوزيع الجغرافي خرجت عن الفاعلية.
عندما قرأت قبل زمن عن وباء الحمى الأسبانية،1918، هالني التناقض في الأرقام: بين عشرين مليون إلى 100 مليون حالة وفاة! كل ما لدينا من الأرقام هي مجرد أرقام واهية لا تقوى على الحمل الحقيقة ولا تطرح التوقعات، وعليه فليس بمقدورنا، استناداً إليها، تخيل طريق للخروج.
عملية عد عشوائية لا تأخذ المسائل المهمة في الحسبان! وهي إلى حد كبير تشبه سؤال الطفولة الشهير: القطر أسرع والا الشجرة أطول!
خذوا هذا المثال:
من منتصف يناير إلى منتصف مارس [8 أسابيع] بلغت الحالات قرابة 200 ألف حالة!
ومن يوم السبت الماضي حتى الأمس [7 أيام] زادت الحالات 200 ألف حالة. وبصورة ما نحن أمام نصف مليون مصاب بالفيروس، نصف هذه الحالات تقريباً مضى على إصابتها قرابة الأسبوعين!
البيانات التي حصلنا عليها من آيسلاندا مثيرة، ويمكن أن نتعمل منها الشيء الكثير:
في منطقة صغيرة داخل الجزيرة أجرت السلطات فحصاً لثلاثة آلاف شخص، ووجدت أن 66 منهم قد أصيبوا بالفيروس. عزل المصابون ثم خضعوا للفحص بعد مضي أسبوعين. وجدت السلطات الطبية أن 6 فقط منهم لا يزالوا يحملون الفيروس.
بمقدورنا، بالاستفادة من هذه البيانات وبيانات أخرى غاية في الأهمية، تطوير موديل [نموذج إحصائي] يساعدنا على تخيل "بحيرة الشيطان" هذه. هل بمقدورنا القول إن عدد الحالات الآن هو أقل من 300 ألف عالميا؟ بالطبع يمكننا فعل ذلك، غير أن العدد الحقيقي لحالات العالم ليس نصف مليون وإنما بين مليونين ونصف إلى خمسة ملايين. تحليل البيانات القادمة من الصين ساعدنا على تخيل نموذج انتشار للفيروس: يعدي المصاب 5 إلى عشرة آخرين. بالطبع: عدا السوبرسبريدر Super spreader. هذا يعني، عملياً، إن الحالات المسجلة حديثا ليست إصابات جديدة وإنما حالات جديدة، وهناك فرق كبير بين الأمرين. لدينا بحيرة كبيرة ومظلمة، وحتى إن تجاوزت الحالات المليون مريض في الأيام الماضية فإن جزء كبيراً منها سيقع داخل هذا التخيل الإحصائي: حالات جديدة لا إصابات جديدة. فنحن نتوقع بحيرة من خمسة ملايين كحد أعلى. وهكذا.
سأتحدث عن السوبر سبريدر في سياق آخر فيما بعد. ولكن لماذا نطرح هذا الجدل؟ ذلك أن ما يهم الآن شيء آخرمختلف غير النظر بهلع إلى عداد الحالات، إلى الحساب العاري. فإجراءات الحجر الشديدة التي اتبعت في كل العالم حدثت خلال الأسبوعين الماضيين،وعلينا أن ننتظر قليلاً لنرى كيف ستتطور الموجة. الحالات الجديدة هي حالات أصيبت في وقت مبكر خلال الشهر. التزايد الرهيب لا يعود إلى توحش في قدرة الفيروس على الانتشار [فهو، على كل حال، أصبح محدودا مع نظام الحجر العالمي]، بل إلى تطور مذهل في قدرتنا على تنفيذ مسح على الحالات الشبحية والبؤر المظلمة. لا نعلم، أيضاً، عن نسبة الشفاء الشيء الكثير. فالسلطات لا تجري فحصاً على الحالات الإيجابية بعد أسبوعين سوى في بعض الأماكن القليلة في العالم. هل يمكننا قول: مقابل كل ألف حالة جديدة هناك ألف حالة قديمة تخرج تصبح خالية من الفيروس؟ بالطبع ممكن، داخل نموذج حسابي معين.
صحيح أن عدد الحالات زاد 200 ألف خلال أسبوع واحد، لكن هذا الرقم لا يقول الشيء الكثير. لا يزال بمقدورنا عمل الكثير، وهذا النمو مجرد ظاهرة إحصائية صرفة، والفيروس خسر كثيرا: خسر الغفلة التي كنا فيها.
سأذهب الآن إلى الجبهة وليس لدي الوقت الكثير للحديث عن الموضوع ..