د. مروان الغفوري
قرابة مليار ونصف المليار بشر في وضع أشبه بالإقامة الجبرية، لم يسبق أن عايشت الأرض وضعا كهذا من قبل ولا في أسوأ الحروب.
كان الدكتور آيلورد، رئيس وفد منظمة الصحة العالمية إلى الصين، حاسما وهو يتحدث إلى التايم هاتفيا:
"إنه أخطر مرض ستمر به في حياتك، خطر عليك كفرد، خطر على والديك، خطر على جدك وجدتك، وخطر على مجتمعك. أنت عنصر في سلسلة عبوره، وعن طريقك سيؤذي الآخرين. عليك أن لا تستخف به لسبب وحيد: لأنه مرض جديد ولا نعرف عنه سوى النزر اليسير، ولا ندري إلى أي مدى سنذهب في مواجهته".
سنخرج منتصرين، لكن الثمن سيكون مروعا. المأساة العالمية تحدث الآن والمصابون بالكاد تجاوزوا الثلث مليون، في عالم يقترب عدده من ٨ مليار بشر. ثمة تخوف يبعث على التوتر، طرحه الدكتور آيلوورد: من المتوقع أن نخرج من الأزمة مع بداية الشتاء القادم، وهو الفصل المحبب للفيروس،ومن غير المستبعد أن يعاود انتشاره من جديد مسببا موجة وباء جديدة.
نذهب في صراعنا المدمر مع الفيروس بعيدا، نلقي في وجهه بكل ما في أيدينا: الغذاء، الاقتصاد، البحث العلمي، حياتنا الاجتماعية، كل شيء. وهو يواصل صعوده، وقد حقق هذا اليوم ٣٠ الف حالة جديدة. العزلة خيار استراتيجي، غير أنه لا يجيب عن كل الأسئلة. فالهدف المركزي من العزلة هو إبطاء الفيروس واستغلال الوقت في البحث عن وسائل مواجهة أكثر صلابة: تعزيز البنية التحتية الطبية بالمزيد من الإمكانات (كان الوباء مباغتا لكل العالم، هذه حقيقة مؤسفة)، تطوير اللقاح، تطوير الدواء، تشكيل متتالية مناعية، إلخ. هذه الاستراتيجية قد تكلف دولا كثيرة اقتصادها بالكامل، وإذا لم تستغل كل لحظة من لحظات العزلة في تطوير وسائل المواجهة فقد ضحت باقتصادها بلا طائل.
تعلمنا من هذا الوباء حتى الآن أشياء كثيرة، وأهم ما تعلمناه إن إخفاء الحقيقة قد يكلفنا الحياة نفسها. هذا ما فعلته الصين. قالت دراسة من ساوث هامبتون إن النموذج الإحصائي الذي طوره الباحثون كشف عن إمكانية مهدورة لهزيمة الفيروس في ووهان لو أن السلطات الصينية تعاملت مع المعلومات وأفرجت عن الحقائق في وقت مبكر.
تذكروا هذا جيدا:
في نوفمبر ٢٠٠٢ برز فيروس سارس كوف الأول، SARS ورصده الأطباء الصينيون في وقت مبكر. قامت السلطات آنذاك بقمع كل الأصوات، اختطاف الأطباء، وإخفاء الحقيقة. بعد أن وصل إلى ٢٩ دولة اعترفت بوجوده وبمصدره (وياللمصادفة: نفس مصدر كورونا الراهن، الخفاش من عائلة راينوفيلوس). كانت السلطات الصينية آنذاك تستعد للاحتفال بتنصيب رئيس جديد للبلاد في فصل الربيع، وخافت من تعكير صفو الاحتفال. حياة الناس أقل قيمة من إبهار الزعيم، كما يذهب كريس باتن، آخر حاكم انجليزي لهونغ كونغ.
سنتعلم من هذه المأساة أن الديكتاتورية هي مصدر الفيروسات والأوبئة وكل أشكال الموت. وأن الحقيق هي أول ضحاياها، وأننا ضحايا مباشرون لانهيار الحقيقة.
يجول الفيروس في الخارج، تتصدى له أدوات القرون الوسطى: الطهارة، والصلوات. ليس بمقدورك أن تسخر من هاتين الوسيلتين، فهما تعملان بطريقتهما، حتى يقول العلم كلمة حاسمة، ولن يكون ذلك قريبا. الابتهالات في الكنائس والمساجد تملأ العالم، تملأ الناس بقدر من الطمأنينة واليقين، او لنقل: تملأ الفراغ الرهيب الذي تركه العلم.
كررت الصين فعلتها السابقة مرات عديدة، وكأننا لم نتعلم الدرس من سارس ٢٠٠٢. لاحظوا كيف تستهتر الديكتاتوريات الحمقاء بأكبر تحد علمي يواجه الحياة البشرية: كوبا وروسيا ترسلان وفودا طبية إلى إيطاليا! ربما بمهارة ضرب حقن!، مستوى البحث العلمي في الدولتين، خصوصا في الحقل الطبي، يقع في خانة العالم الثالث، بمساهمات شحيحة بالكاد تصلح للاقتباس الأكاديمي. وهناك قائد وحيد هو من بمقدوره أن يستخدم كل طاقاته، لا سواه.
إن أزمة كورونا هي أزمة الحياة الحديثة مع الديكتاتورية، العوائق التي تحول دون أن نبني truth from facts، أو حقيقة من وقائع علمية. مرهونة حياتنا بحصولنا لا على المعلومة وحسب، بل على الحقيقة. إنها جدار حمايتنا الأول، وهي - أي الحقيقة - ما يمكننا من حماية أنفسنا وعالمنا في الوقت المناسب وبالوسيلة المناسبة. من يخفي الحقيقة، من يزيفها، من يملأ حياتنا بالحقائق البديلة هو يهدد وجودنا.
سأذكركم بهذا:
قالت دراسة قام بها فريق يعمل في الإيكونوميست إن ١٣% فقط من سكان العالم يتمتعون بصحافة حرة. أي بإمكانية الحصول على الحقيقة. بينما يعيش ٨٧% في ظلام دامس. من ذلك الظلام يخروج كورونا، وسيخرج كورونا آخر في المستقبل كما خرج في الماضي.