رأيته حزنانًا في تلفّته، في تغضّن جفنيه، وقدرته على البقاء واقفًا، انهار مثل قطعة قماش على مقعد بلاستيكي، وبقايا فكّ قديم "يبدو أنه تعرض لتجارب أطباء متدربين" ، كانت تلك الطريقة الوحيدة لتنظيف وزراعة الأسنان - مجانًا - ، وقد بلغ أثرها في حفريات فكيّه علامة مُسجّلة لتفاصيل وجه كان سلطانًا ، سلطانًا حقيقيًا يأمر وينهى، يرتدي عِمامة السُلطة، له خدمٌ وحشمٌ، وقصرٌ، وعَلَم أيضًا .
حين سألته : لِمَ لا تعود ؟!، تبسّم الفك وحده دون باقي عضلات وجهه الغائر في تجاعيد القرن الماضي، وجاءني صوته من غيابة الجُبّ قائلًا : كانت تجربة حُكم لا تعود يا بُني ، ثم لكزني بعصاه في ساقي، وطفق يمضغ فكه !
بجوارنا كان ثمة هاشمي يتربص الحديث كمن يهيئ كمينًا من الكلمات، ولم أمهله، أطلقت صاروخًا في ساعة الهدنة وقلت موجّهًا كلامي إليهما : فانظر يا سيدي إلى هؤلاء - وأشرت بسبابتي إلى المتربص - كيف يعودون مهرولين بإصرار نحو الحُكم كل عشرين سنة، وفي سبيل ذلك تهتز جذوع البلد، وتسقط الثمار قبل أوانها، ويُسفح الدم على جنبات الحُلم المقدس .
لوّح "السلطان القديم" كفه اليمنى، تلويحة من الماضي، باللونين الأبيض والأسود، ولم يُجّب، يجتر فكه مثل جمل برك على أطراف واحة في عمق صحراء الربع الخالي. !، وعلى الفور شحذ "المتربص" هِمّته، حاول فتح فمه، فألقيت قنبلة إليه ! : هل تعلم أن عدد "الثورات" الهاشمية على الحُكام العرب طوال ١٢٠٠ عام بلغت أكثر من ٥٤٠٠ ثورة و تمرد، وكلما تنفس العرب شيئًا من صفاء الحياة، أوقعهم فخ حفيد جديد للنسل "المبارك" في صراع التأويل على أحقيته في الولاية !، وأغرقهم في ثأرية لا تموت، ثم لا ينال إلا سيفًا يفصل عنقه عن كتفيه اللذين باءا بآثام من قُتلوا في فتنته .
ولم يُجِبْ ! ، فقلتُ : لِم لا تعيشون كباقي الخلق، لا حق لكم عند أحد، ولا دَينْ في أعناقنا لكم، ولا وراثة لنبي، لا شيء ولا أثر ولا عَلاَمة.
فجاءني بعجالة من هذر مكرر : أو ينسى المرء نسبه !، ثم أردف منتفضًا كمن هبطت عليه حُمى التيفود : أنت لك لقبك ولي هاشميتي !
- أمممم أترون هذا الفخ اللفظي ، سأجيب : إن الهاشمية ليست لقبًا، بل هوية، لقبك عائلتك الذي مُنحت إياه في اليمن التي تسكن فيها هو "المتوكل، الحسني، المداني ..." أما هاشميتك فإنها هوية من خارج حدود اليمن، وتعصبها العرقي منذ ألف عام أورث لنا حالة إجرامية من النفور الدموي نحو السلطة مستغلين "هاشمية النبي"، ومتناسين في ذات الوقت أن المصطفى الحبيب لم يمنح تلك النبوة الخالدة والرسالة العالمية لأنه من "بني هاشم" ، بل لأنه رسول الرحمة الذي لا يقاربه أحد في مزاياه ولا يرثه أحد في نُبوّته .
فبُهت الذي تربّص ..
..
لحظتذاك ، كان السلطان يحتضر منشدًا معلقة امرئ القيس :
قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل
بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ
..
يبدو أنه مات بهدوء بعد أيام، مُعلنًا نهاية السلطان الأخير .