أمين بن مسعود
تونس.. حمّى الانقلابات زمن الانتخابات
السبت 7 سبتمبر 2019 الساعة 16:38
من الواضح أن الانتخابات الرئاسية التونسيّة، دخلت مرحلة إشهار السكاكين الطويلة، حيث يعمد كلّ مرشح إلى استعمال كافة الأوراق والوسائل قصد النيل من الطرف الآخر، وإن كان على حساب واجب التحفظ وعلوية القانون واحترام المؤسسات القضائية والدستورية المؤطرة لفعل الاقتراع.
بسرعة تحول الجدال من معركة برامج ومشاريع ورؤى ومقاربات، إلى تصفية حسابات شخصية يلتجأ فيها إلى التسريبات والرسائل الخاصة ويُداس فيها الحد الأدنى من أخلاقيات العمل والخطاب السياسي.
وعوضا من أن يبنى الخطاب السياسي للمرشحين على فرضية وجود قصور في العمل الحكومي وتعطيل في مؤسسات الدولة وضعف في الرؤية الاستراتيجية للبلاد، صار الخطاب مبنيا على مقدمات وجود مافيات في الحكم أو في المعارضة، تسعى إلى الانقضاض على السلطة بأي شكل من الأشكال، وتخطط للانقلاب على الشرعية.
الوصول إلى هذا المنحدر في الخطاب والأداء السياسيين، خطير للغاية، فأن تنعت قوى في المعارضة بـ”المافيات”، وأن تُوصّف مراكز حكومية في الدولة بـ”العصابات” و”الكتائب” و”اللوبيات”، هو مؤشر واضح على أنّ المسألة لم تعد قضية تنافس انتخابي على مواقع السلطة، بل صارت استحقاق “إنقاذ الدولة من الدولة الموازية” ممثلة في المافيات أو العصابات أو غير ذلك.
الخطير في هذا الخطاب ليس مضمونه ومنطوقه فقط، بل ما يمكن أن يستدعيه من نتائج. فتقديم تمثلات عن جزء من المعارضة بأنها مافيات يفترض استبعادها نهائيا عن السياسة والحكم، وإطلاق اتهامات للسلطة بـ”اللوبيات” و”العصابات”، يستدر نتيجة أنها باتت خطرا على الانتقال الديمقراطي وعلى مؤسسات الدولة.
وفي الحالتين، استهداف خطير للمناخ الانتخابي ولعملية التراكم الديمقراطي، واعتداء على السلطة القضائية والأخطر تطويع لمؤسسات الدولة في المعركة الانتخابية.
وكلما استهان الخطاب السياسي للفاعلين السياسيين، الذي من المفروض أنهم رجالات الدولة وصانعو الوعي، بمصطلح “المافيات” وتعابير “العصابات”، دون تروّ ورصانة تحتاجهما اللحظة الاقتراعية في البلاد، كلما صارت مقولات الانقلاب، مقولات تلازمية مع أجواء التخوين وسياقات التشويه.
باتت تونس اليوم، عاصمة “الانقلابات الفاشلة” ضد الشرعيات الهلامية من قبل “المنقذين” الذين جندهم التاريخ لتجنيب تونس سيناريوهات الاستيلاء على السلطة.
عبدالكريم الزبيدي، يتحدث عن وصفه المنقذ من “انقلاب” البرلمان على رئاسة الجمهورية، وسليم الرياحي يشير بكل اعتزاز من منفاه الفرنسي إلى إسقاطه “انقلابا” استهدف رئاسة الجمهورية من قبل رئيس الحكومة الحالي بالتواطؤ مع النهضة، والأوساط القريبة من نبيل القروي تؤكد حصول “انقلاب رمزي” على الرئيس السابق الراحل الباجي قائد السبسي، و”شبه انقلاب” قضائي لإزاحة القروي من السباق الانتخابي، والمنصف المرزوقي يحدّثنا بين الفينة والأخرى عن “الانقلاب” الإقليمي المتربص بالتجربة الديمقراطية التونسية الوليدة.
حمى الانقلابات الحقيقية منها أو الافتراضية، الواقعية منها أو الخيالية، تفرض واقعا انتخابيا غير صحي، قوامه وجود “انقلابيين متربصين” بالدولة والشرعية في مقابل “المنقذ” الذي يعرف جيّدا الغرف السوداء وماكينات التشويه والشيطنة.
المفارقة أن الغالبية تقريبا تتحدث عن انقلاب استهدف الرئيس في وقت معين، وكأن لسان حالها يقول نحن من أسقط الانقلاب على الرئيس السابق ونحن الأولى بالكرسي الذي دافعنا عن شرعيته ومشروعيته، وإن كان في روايتها الكثير من اللغط ونقاط الاستدراك والتحفّظ.
هل هناك انقلاب في الديمقراطيات، أو بالمؤسسات الشرعية التي انتخبها الشعب لممارسة السلطة، هل هناك استيلاء على السلطة عبر مؤسسات التشريع ووفق القانون يقع إسقاطه من خلال الدبابات والمدرعات، صراحة لا نظنّ، ولكن ما نؤكّده أن في صناعة صورة المنقذ من الانقلابات المشبوهة تجاوزا لانقلابات حقيقية يبصرها التونسي في واقعه المعيش.
فالتونسي الذي يبصر يوميا انقلابا صريحا وواقعيا وبتواطؤ من كافة الأطراف المحلية والخارجية على قوته وعلى مرتبه الشهري وعلى قدرته الشرائية صار عاجزا عن مواجهة تكاليف الحياة، يريد من يوقف هذا الانقلاب الشره والشرس.
والمجموعة الوطنية التي تبصر يوميا انقلابا صريحا واستهدافا ممنهجا للخدمات العمومية من تعليم وصحة وسكن ونقل، لصالح مراكز نفوذ خاصة، تريد منقذا حقيقيا لهذا الانقلاب ضدّ الصالح والمرفق العام.
إن كانت من صورة منقذ فليكن ضد انقلاب معيشي يعيشه التونسي يوميا ويعرفه الشباب الذين بات الكثيرون منهم يحلمون بالهجرة ولو كانت في شكل نصف انتحار في أمواج البحر المتوسط، أمّا بناء صورة منقذ لانقلابات مشبوهة، فلن يكون أكثر من فقاعات مائية تتلاشى بمجرد انتهاء الانتخابات واستمرار الانقلاب الحقيقي ضد المواطن والوطن.
*نقلا عن العرب