ظل الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه طول حياته مهجوساً برغبته الجامحة في هدم «نموذج الإله» من أجل بناء «نموذج الإنسان» حيث بدأ نيتشه تنظيراته العديدة عن «الإنسان المتفوق أو السوبرمان» الذي اشتغل عليه في أكثر من عمل فلسفي. غير أن هذا الفيلسوف وفي الوقت الذي ظن أنه يخلص البشر من فكرة الإله فإنه رهنهم لفكرة «إله آخر» هو هذا الإنسان المتفوق الذي هو «خلاصة ما وصل إليه جنس الإنسان الذي جاء من خلية حية حقيرة ومرَّ بمراحله (القردية) إلى أن استوى إنساناً» حسب التفكير الدارويني الذي حاول نيتشه أن يتمثله على المستوى الفلسفي.
كان نيتشه ينطلق في تصوره للإله الذي يرفضه من صورة «الإله المسيحي» الذي أراد أن يقضي عليه، لأن ذلك الإله حسب «فلسفة القوة النيتشية» رمز الرحمة التي هي رمز الضعف الذي كان سبباً في صلبه، حسب التصور المسيحي الذي ينطلق منه نيتشه في حربه المعلنة ضد الأديان.
وقد حرص الفيلسوف الألماني على أن يرفض فكرة «الإله» تمهيداً لفكرته المثالية عن «السوبرمان» الذي كان يعده ليكون الإله الجديد للحضارة البشرية، وهذه الفكرة، وإن كانت نظرية فلسفية إلا أن أثرها على الفكر والأدب والثقافة والفن والنقد والتطبيقات السياسية والاقتصادية الغربية ظل طاغياً لفترة طويلة، إلى أن وصلنا إلى استلهام النازيين والفاشيين لمثل تلك الأفكار التي أخرجوها عن سياقاتها إلى مساقات عنصرية بحتة كانت لها آثارها المدمرة التي رأيناها في الحرب العالمية الثانية، ليفيق العالم على حجم الخطأ الكبير الذي وقع فيه أولئك الذين أرادوا التخلص من فكرة «الإله الديني/الله» سعياً منهم للتخلص من الحروب الدينية التي تثيرها هذه الفكرة التي هربوا منها ليقعوا في شرَك «الإله الفلسفي/السوبرمان» الذي أراد أن يدير الكون، حسب مشيئته فانتهى بنا إلى حروب مدمرة.
كان نيتشه يكره المسيح، أو يكره الصورة التي قدمتها المسيحية للمسيح، ويمكن فهم نقمة هذا الفيلسوف على الإله والأديان بأنها ردة فعل للصورة التي قدمت بها المسيحية السيد المسيح أو «الإله المسيحي» وهي صورة لم يكن نيتشه راضياً عنها، ما دفعه للإيغال في محاولاته «خلق إله قوي» لكن نيتشه لم يسمه إلها، وإنما سماه «إنساناً متفوقاً» وهو الإنسان الذي سيكون خلاصة التجارب الطبيعية على تحسين الأداء في مضمار النوع الإنساني، جرياً على المنوال الدارويني المعروف في العلوم البيولوجية التي حاول نيتشه مجاراتها فلسفياً، كما تمت الإشارة أعلاه.
وقد ظن هذا الفيلسوف أنه بمخالفته للصورة النمطية للإله لدى التصور الديني يستطيع أن يقضي على فكرة الإله من أساسها ليمهد الطريق لكائنه «الخرافي» الذي تصوره على هيئة إله لم يستطع أن يخرج من الصفات التي أوردتها الأديان للإله الذي كفر به نيتشه الذي اقترب بالتفكير الفلسفي من التفكير الديني في تصوره للسوبرمان الذي خلع عليه نيتشه صفات «الإله» الذي قال عنه إنه قد مات، أو حسب تعبيره: «قتلناه بأيدينا».
وإمعاناً في محاولة الخروج على الأطر الدينية يرى نيتشه أنه إذا جاء المسيح من أجل «هداية خراف الله الضالة» بمعنى إعادة الخراف (البشر) التي خرجت من الطريق الصحيح إلى هذا الطريق، فإن نيتشه يقول إنه يريد «تخليص الخراف من القطيع» حيث كان يرى أن طريقة المسيح هي القطيع، وأن الهداية تكمن في الخروج على هذا القطيع الذي يمثل لدى نيتشه مجموعة من تقاليد الضعف التي يجب أن تموت لتمهيد الطريق لإله نيتشه الخارق. وهنا يقترب ذلك الفيلسوف المتمرد على الدين ـ ومن غير وعي منه ـ من فكرة «المخلّص» الذي يأتي لتخليص البشرية من عذاباتها ومعاناتها، وهي الفكرة الدينية التي أرادت فلسفة نيتشه أن تثور عليها، لكنها لم تستطع الخروج على الأنساق الفكرية العامة المؤطرة لها، إلا من حيث اختراع أسماء جديدة للمسميات التي ثار عليها ذلك الفيلسوف الشهير.
لم يخرج نيتشه – إذن – عن النمط التقليدي، حيث لم يطرح نهائياً فكرة الإله، ولم يتخلص من فكرة المخلّص، وكلما في الأمر أنه تجاوز فكرة «الإله المسيحي» ليضع مكانها فكرته عن «السوبرمان الفلسفي» كما يبدو واضحاً أنه يقوم بدور نبي في التبشير بسوبرمانه أو إلهه الجديد، وهذا يعكس رغبة عارمة في الخلود: الخلود من خلال فكرة السوبرمان الخالد، والخلود من خلال تقمص نيتشه دوراً نبوياً على مستوى الخطاب الفلسفي.
وبالنظر إلى حياة نيتشه ومعاناته الفكرية والجسدية يمكن القول إن معاناته كان لها دور كبير في توجهاته الفلسفية، فعلل جسده الضعيف بعثت فيه رغبة جامحة في التغلب على تلك العلل بتصوره الإنسان المتفوق في قواه الفكرية والبدنية، كما أن إحساسه بالعجز إزاء قسوة الوجود جعله يخترع فكرة «الإله الفلسفي» الذي لا يختلف إلا في بعض التفاصيل عن «الإله الديني» ما يعكس رغبة الفيلسوف في الحصول على الخلود والتغلب على العدم الذي يأتي من خلال «موت الروح والجسد» كما يقول نيتشه على لسان زرادشت.
تشكل محاولة نيتشه في الخروج على نمط التفكير الديني مثالاً واضحاً لتعثر محاولات الإنسان في رفض فكرة الإله، إذ ينطلق رفض هذه الفكرة من المنطلقات ذاتها التي تنطلق منها فكرة الإله في الأديان المختلفة، ليظل الإنسان فيما يبدو مهجوساً بحاجته إلى «الإله» الذي عندما يرفضه يقع في شرك فكرة «السوبرمان» أو «الكائنات الفضائية الخارقة» التي يسبغ عليها من يؤمن بها صفات الإله عند المؤمنين بالأديان.
لقد حاول نيتشه هنا الهرب من فكرة «الإله الغائب» إلى فكرة «الإنسان الحاضر» ولكننا وجدناه في نهاية المطاف يعيد لنا إنتاج فكرة الإله، إجمالاً مع بعض التفاصيل البسيطة التي لا تخرج عن الإطار العام للفكرة.
أما الذين بشروا بمثل تلك الأفكار على مستوى «النيتشية السياسية» فربما أرادوا دعم التوجهات العلمانية المتكئة على فكرة «موت الإله» التي رأوا أنها يمكن أن تخلص البشرية من معضلة «الحروب الدينية» التي شهدتها أوروبا على مدى قرون. غير أن المفارقة العجيبة تكمن في أن التوجهات العنصرية الأوروبية التي اتكأت على فلسفة نيتشه حول السوبرمان قد آلت أخيراً إلى تيارات انعزالية كان في المقدمة منها النازية والفاشية كما مر معنا، وهي التيارات التي كانت أهم دوافع الحرب الأسوأ في تاريخ البشرية، ليتبين فيما بعد أن «الإله الفلسفي» – وليس «الإله الديني» – تسبب في قتل عشرات الملايين خلال خمس سنوات، وهو عدد مرعب لم تتسبب فكرة «الإله الديني» في إزهاق ولو نسبة بسيطة منه، مع كل ما اندلع تحت يافطتها من حروب دينية شهدتها أوروبا الوسيطة.
أخيراً: تحاول بعض التيارات الإلحادية اليوم الانطلاق من منطلق مآسي «الحروب الدينية» لترفض فكرة الإله أو التصور الديني للإله، غير أن تجربتنا مع «الإله الفلسفي» الذي بشر به «نبي الفلسفة» نيتشه لا تبدو مشجعة، ذلك أن الإشكال ليس في الدين ولا في الفلسفة، بل في الإنسان ذاته الذي يحاول أن يوظف كل شيء لصالحه، بحكم أن الأديان والفلسفات لا تتحارب، ولكنها المصالح والأطماع هي التي تفجر الويلات والحروب.