فكري قاسم
دبروا لنا مقتول
الخميس 23 يونيو 2022 الساعة 00:24

أول ما أصدرتُ صحيفة حديث المدينة، منتصف سنة 2009م، قلت شعمل أخبار وتقارير صحفية مغايرة تعدل مزاج القارئ وتساعده في الخروج من حالة الأكشن التي كان عليها حال الوضع السياسي في البلد خلال تلك الفترة من الزمن.

قلت سأكتب أكثر من افتتاحية عن الحب وعن الجمال وعن الفن والأدب والموسيقى وعن النظافة وعن الحدائق والمتنزهات وعن البناء والتطور والأمل والطموح، وعن ممكنات الذهاب المريح إلى العصر زي بقية خلق الله في المعمورة.

في أول ثلاثة أشهر دورت فعاليات فنية

نشاطات محفزة للطاقات الإيجابية في الميدان

قصص نجاح ملهمة تغير من نمط التفكير السائد، أو أي مشاريع عملاقة بوسعها أن تخطف اهتمام القارئ.

وفي كل اسبوع اقول لطاقم التحرير وانا متحمس :

- دبروا لنا في كل عدد اخبار سعيدة تقلب مزاج القارئ .

مالقيتش مثل هذه الفعاليات في ساحة الصراع السياسي السائد في البلد، ومع هذا اخترعتها وكتبت عنها بطريقتي الساخرة عشان أقدر أسحب القارئ إلى ملعبي اللي أشتي أتميز فيه بعيدًا عن أخبار السياسة اللئيمة وعن مماحكاتها التي تعطل التفكير وتجلب للناس الإحباط والسأم، ولكن من دون جدوى.

كان المزاج اليمني العام قد أصبح تالفًا وخربانًا في كوم اخبار القح بم ولا يهمه موسيقى ولا حب

ولا أي شيء من هذا الهدار الفاضي .

وكان القارئ قدو زبل ويشتيك؛بحقه الستين الريال اللي يشتري بها الصحيفة تبطح الرئيس والحكومة في كل عدد وإلا والله ما يشتري الصحيفة، ولا حتى يعبرها !

ولو شاف العدد في المكتبات بلا أكشن سرحت الجن

يحنق منك فيسع ويقهر على حقه الستين الريال ويقول إنك خلاص قد بعت القضية وإن قدك مُهادن للنظام وقدك في الجيب!

فشلت خطتي الرومانسية في سياسة التحرير اللي كنت أحلم بها وبطلت اشغل الشباب في طاقم التحرير يدبروا اخبار سعيدة !

وبمرور الخمسة الأشهر الأولى

أصبحت الورطة الأسبوعية الكبيرة اللي أعيشها أنا وطاقم التحرير في الصحيفة قبل كل إصدار لما يمشي الأسبوع كله ومافيش معانا أكشن،

ولا في أخبار عن قتلى أو مواجهات مسلحة

أو اغتصاب أو نهب أو مضرابة أو انفجار في المكان الفلاني أو فضيحة تقشعر لها صلعة جدي رحمه الله.

مرة واحنا سهرانين في الصحيفة نجهز العدد كانت الأخبار الواردة كلها عادية، وما معانا ولا حتى خبر واحد عن أيّ مقتول، أو عن أيّ جريمة، أو أيّ انفجار هنا أو هناك.

الساعة قدهي 5 فجر، وبعد ساعة لازم نشل العدد إلى المطبعة والدنيا بواااار

ومابوه حتى قارح واحد يمكن أن نعمل منه مانشيت يدهف لنا العدد ويخليه ينفذ سريعًا من الأكشاك

والوقت يمشي وانا قلق ومتوتر وحانب ومش داري من أين أسير أدبر للقارئ مقتول هذي الساع؟

من أين اخترع له جريمة ترضيه في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ من أين اخترع له مصيبة تغريه عشان يشتري الصحيفة؟

فكرت أقتل أحد محرري الصحيفة واتخارج؟!

ومر فجر هذاك اليوم وانا أتلبج بين طاقم التحرير واقولهم:

– دبروا لنا مقتول من الجن يا شباب

- دوروا أي فضيحة، أي جريمة على الطائر، أي شيء أكشن .. أي خروقات في أي مكان يخلينا نبطح الحكومة ونبطح الرئيس والسلطة منسب القارئ يكون مبسوط!

وقبل أن أصدر صحيفة حديث المدينة بالمناسبة كنت اكتب خمسة مقالات في الأسبوع لصحيفة عكاظ السعودية، وألقى منها مكافأة جيدة وأكثر بكثير مما كنت أكسبه من صحيفتي الخاصة اللي أتلفت لي مزاجي تمامًا، وأنهكتني ذهنيا وحملتني أعباء نفسية كثيرة

وحولتني من كاتب ساخر الى رئيس تحرير مقعي طول الوقت لاوجه اللي يسوا واللي مايسواش عشان الاقي منهم إعلانات لتمويل مواصلة إصدار العدد الاسبوعي .

بينما كنت من قبل ذلك مرتاح البال ومتخفف من ملاحقة فلان وعلان

 واكتب الخمسة المقالات الأسبوعية لجريدة عكاظ بكل أريحية، واتناول فيها قضايا اجتماعية بسيطة لا تنهك الروح

ولا تتلف الأعصاب ولا تأخذ مني وقتًا كثيرًا على الإطلاق.

وبعد كل مقال منشور ألقى من القارئ السعودي تفاعلًا كبيرًا ولطفًا وفيرًا لأنه في الأساس

 كان قارئًا مرتاح البال، ويعيش حياته اليومية بمزاج جيد

مزاج رائق وغير معصود بالمناكفات السياسية المدمرة للذائقة وللروح.

لا ألوم القارئ اليمني أبدًا على مزاجه السيئ سابقًا، وحتى الآن ؛ قدر ما ألوم رجال السياسة ورجال الدين الذين عبثوا بذائقة اليمنيين دهرًا طويلاً

وشحنوا أرواحنا وأذهاننا بخصومات سياسية بلا توقف

وبخطاب كراهية مستدام ومستمر في التدفق إلينا بغزارةحتى هذه اللحظة من الزمن.

القارىء في اليمن على أية حال ضحية خطاب كريه ولئيم خلانا شعب مرهق وتعبان ونعيش حياتنا الاعتيادية واحنا في خصومة دائمة مع بلادنا !

خطاب مدمر للطاقات وللنفسية خلانا بين الخلق كائنات تائهة تتنفس الويلات والبارود

ونشتي في كل مقال غريم

وفي كل خبر مقتول

والا حرام ما سبره؟!

المقالات