بعض الروايات عابرة، تُنسى وتموت في ظرف سنوات إن لم يكن أقل، وإن بقيت، فمن باب تاريخ الأدب، وبعضها عابرة للأجيال؛ لأنها رواية أجيال وأزمان ممتدة، ومنها رواية «المنسيون بين ماءين» للروائية البحرينية ليلى المطوع، التي أزعم أنها رواية البحرين، أو ملحمة البحرين، التي مزجت بين الحقيقة والخيال، والتاريخ والأدب، وربطت الماضي بالحاضر بتسلسل وسرد بديعين، ومحطات فاصلة، على مدار ستة آلاف عام.
لم تهتم بأسماء الأديان والأقوام والقبائل ولا الأماكن، وكان همها «البحرين» ككيان بشكل عام، وما تعاقب عليها من تقلبات وتغيرات وتحولات جذرية، بعيدا عن السلطة الحاكمة، والسياسة النافذة، والأديان السائدة، فقضيتها الإنسان والمكان، وعلاقتهما معا، بما فيها من انسجام ووئام وصراع وخصام، مع انحياز واضح للمكان؛ لأنه تعرض للتغيير والتعدي والجور، وما زال.
هذه الرواية، لا يمكن أن تستوعبها مقالة واحدة، فهي ميدان خصب لعشرات المقالات والدراسات، في مجالات وموضوعات عديدة. ولا شك في أن هذه الرواية/الملحمة نتاج جهد بحثي كبير مضنٍ للكاتبة، وزيارات ميدانية، وسماع شفاهي للكثير من شهادات الباحثين وكبار السن الذين شهدوا طرفا من تقلب الزمان وتغيّر المكان. وهذا الجهد الكبير، تبعه جهد إبداعي مميز؛ لتخرج هذه الرواية بهذا الشكل الإبداعي الرائع، بكل تجلياته الفنية والجمالية والتشويقية، ويُذكر أن الرواية استهلكت ثماني سنوات من عمر الكاتبة حتى أنجزتها على صورتها التي بين أيدينا.
ذاكرة المكان
لكل مكان ذاكرته، سواء أكانت معروفة أم مجهولة، ولا يضير المكان إن جهلوا تاريخه وماضيه وعراقته، بل يعيبهم هم. وجريمة مخزية أن ينكر أهل المكان ذاكرته، ويحاولون طمسها إن لم ترتبط بهم بشكل مباشر، وهذا متعلق بالغزاة، كما فعلت أمريكا، فقد أنكرت وطمست وتجاهلت ذاكرة المكان، ولا تعترف إلا بذاكرته بعدما سكنوها قادمين من دول أوروبا، وجلهم لصوص وقراصنة وقتلة وطامعون، ولذا؛ فإن أمريكا الرجل الأبيض، لا ذاكرة حقيقية لها؛ فذاكرتها سطحية بلا جذور، قائمة على القتل والإبادة والاستعباد، وهي تدرك أثر هذه الذاكرة على مكانة الدولة، خاصة أن أقل دولة شأنًا في العالم القديم، لها من الأصالة والعراقة والذاكرة ما لا يتوفر شيء منه لها، ولذا؛ فهي تعوض ما ينقصها عن طريق القوة والغطرسة والتدخل في شؤون الدول الأخرى وفرض سيطرتها هنا وهناك.
كما أن الذاكرة الفلسطينية تعرضت لمحاولات خبيثة وحثيثة للمحو على يد الصهيونية العالمية، واخترعت لها ذاكرة وهمية، وعملت الصهيونية لفرض ذاكرتها بتهجير الفلسطينيين ومحو مئات القرى، وإعادة تسمية المدن والقرى الفلسطينية بأسماء عبرية، وسرقة التراث الفلسطيني ونسبته إليها. وهي في النهاية محاولة يائسة وبائسة وأثبتت الأيام فشلها، وأن الذاكرة الخرافية لن تمحو الذاكرة المتجذرة في المكان والإنسان.
البحرين كغيرها، منطقة مثقلة بالذاكرة الممتدة عبر آلاف السنين، ولكل ذرة تراب وقطرة ماء فيها حكاية، وربما أن ترابها ما هو إلا أجساد تحللت لأقوام سكنوها، ودماؤهم تفجرت عيونا هنا وهناك. وما يميز البحرين أنها مجموعة جزر في منطقة الخليج، وتشكل محطة مفضلة لكل العابرين بحرا، خاصة في العصور السابقة، حيث كانت السفن هي الوسيلة الأبرز للتجارة العالمية، أي إن ذاكرة المكان البحريني غنية ومتنوعة، وامتزج فيها الكثير من الأديان والأقوام والأجناس والألوان، بالإضافة إلى الكائنات على مختلف أصنافها وأنواعها قديما وحديثا. ولعل من أبرز ما يرتبط بذاكرة المكان الطقوس التي كان يمارسها أهل المكان، حسب معتقداتهم وعاداتهم، وأساطيرهم التي كانوا يؤمنون بها، وشعائرهم الدينية والاجتماعية، بالإضافة إلى ممارساتهم المتعلقة بالبحر وعيون الماء، وعلاقتهم المتغيرة معها، وما كانوا يقدمونه من قرابين وأضاحٍ كي ينقذوا أنفسهم من هلاك وعطش، أو طمعا في مزيد من الخير أو الذرية والخصب.
وتتجلى ذاكرة المكان عندما يرتبط الناس والكائنات بها، ويفقدون توازنهم وربما وجودهم عندما يفقدون ذاكرة المكان، ويبحثون عنها ولا يجدونها، كما حدث في البحرين، عندما اختفت معظم شواطئ الجزر، بفعل ردم أجزاء من البحر وزيادة مساحة الجزر من أجل البناء والاستثمار، فلم يعد لكبار السن ذاكرة تربطهم بالشواطئ، التي كانت لهم مرتعا وسكنا ومستراحا، وكذلك العيون التي اختفت، وأشجار النخيل التي قتلت، فاختلّت ذاكرة الناس هناك، خاصة الكبار منهم، وتغيرت خرائط المكان عدة مرات، فخريطة البحرين اليوم، تختلف كليا عن خريطتها قبل نصف قرن من الزمان.
تقول ناديا: «كلّ أهل الساحل يعرفون مكان البحر، أين كان، ومتى ردم، وما الذي حلّ مكانه، أدوّن ذاكرة الماء. تلاشى الماء من جزيرتي، لكن كنت أراه في ذاكرة الكبار؛ هم وحدهم ذاكرة المكان، والنوارس؛ النورس الذي صرخ في وجهي: «هذا بحري» عاد فوجدني أقيم عليه. وحدها طيور النورس تميّز حدود البحر من الأرض».
واختلال الذاكرة، أو الاعتداء على الذاكرة، وانتهاك حرمتها، يجعل الأجيال الحالية دون ذاكرة راسخة متجذرة؛ لأنهم لا يتعاملون مع الأرض والأشجار والبساتين والبحر بشكل فاعل متعلق بالرزق والسعي والعمل والكد والكفاح، ومعظم حياتهم مقتصرة على أبراج شاهقة، ومولات ضخمة للتسوق والترفيه، حتى إجازاتهم يقضونها في الخارج، أي لم يعد للمكان البحريني وجود حقيقي فاعل في ذاكرة الأجيال الشابة وما يليها. وهذا - شئنا أم أبينا- يشكل خطرا على ارتباط الإنسان بالمكان، وانتمائه له، وبالتالي خدمته بأمانة وإخلاص، والدفاع عنه والتضحية في سبيله.
أنسنة الكائنات
لم تكن الكائنات في الرواية هامشية أو مجرد ديكور لا بد منه، بل جاءت فاعلة مؤثرة، لها وجودها وسطوتها ورأيها وحضورها الكبير، مثل البحر وأمواجه وعيون الماء والنخيل والغراب والنورس والشمس وفرس البحر وغيرها. فكانت شخصيات حيّة متحركة لها دورها في نسيج الرواية وأحداثها؛ فالبحر كان يغضب ويثور ويصخب ويبتلع ويرضى وينسحب ويبسط ظهره، والنورس يحتج ويصرخ، والنخلة تبسط سعفها لتظلل محبيها، وفرس النهر يحرس الأصداف المكتنزة باللؤلؤ ويدافع عنها، وعيون الماء تنضب وتغور، وتقدم لها النذور والأضاحي فتفور وتعود من جديد. تتذكر سليمة أنها «كانت طفلة صغيرة، اشتهت رمّانة، فخبّأتها بين ملابسها، وفي طريق العودة اشتدّ البحر، وأخذ يحرّك القارب ويهزّه، فصاحت النسوة خائفات: «من أخذت شيئا من الجزيرة، فعليها رميه في البحر» لكنّ خوفها منعها من الاعتراف. أخذ الموج يشتدّ، البحر يهدّد، والنسوة ينشدن له لعلّه يهدأ، ضاق ذرعا بهنّ. رفع موجته وصفع القارب، انقلب، وغرقت النسوة، فرمت الرمانة باكية وهي وسط البحر، دون أن ينتبه إليها أحد؛ فالكل يحاول النجاة. هدأ البحر وهو يسحب الرمانة باتّجاه الجزيرة الخضراء». فالبحر غضب وهدد وثار، ولم يهدأ إلا بعد أن تراجعت سليمة عن فعلتها النكراء، حسب أخلاقيات البحر ونواميسه.
يجيء صوت نجوى يخاطب ناديا: «لم تعد النخلة تهمس لي. كنت أسألها وأنا أشعر بالنفضة في جسدها. أزورها صباحا قبل جرفها. واقفات ينتظرن الموت بشجاعة. نخلات واقفات على باب الموت. اهمسي لي. أخبريني. أقولها وذراعاي تحيطان بجذعها. تشيح بكبريائها المعروفة. تشرّع نفسها مستقبلة الموت» فالنخلة كائن حي، يشعر ويتألم وتشمخ، وتتألم ولها كبريائها وشجاعتها، وما أعظم جريمة قتل النخلة، بحجة أنها تستهلك ماءً كثيرا، وتحتكر مساحات واسعة من الأرض، والنخلة ليست كأي شجرة أخرى، «فالنخلة خالدة؟ لأنّا شربت الماءين؛ ماء عذبا وماء مالحا».
يقول الكاهن «سار دوب» للشاب «إيا ناصر» عن الغراب: «يا بني، هذا خير رفيق لك في ترحالك، هو عيناك في السماء، وهو صوتك وقت الخطر؛ فلا أوفى من الغراب على هذه الأرض. إنّنا حين نضلّ، نبحث عن علامات الإله لترشدنا، ومن علامات رضى الإله أن يكون لديك غراب يرافق دربك ويحرس طريقك، والغربان حين يموت أصحابها، تقف فوق قبورهم وتنعق مناديةً بأسمائهم، ليتذكّر حتّى الحجر أنّ رجلا صالحا يرقد هنا!» فالغراب ليس مجرد طير، بل هو حارس ودليل ومعلم ووفي لرفيقه.
تغول اليابسة على البحر
كانت العلاقة بين اليابسة والبحر قائمة على الاحترام المتبادل، فالحدود معرفة ومرسومة، ولا يعتدي أحدهما على الآخر، وإذا أراد أحد أن يبني بيتا على ما جف من أرض البحر، لا يفعل حتى يستأذن البحر، ولا يواصل البناء حتى تأتيه إشارة الرضى. ولم تخل العلاقة أحيانا من صخب وغضب البحر لسبب أحدثه البشر، لكنه سرعان ما يهدأ، وينسحب داخل حدوده. وحتى مشاغبات البحر ومده الذي كان يزداد أحيانا، فيدخل البيوت، كان محسوبا ومألوفا، ويعتبره الناس نوعا من طفولة البحر ومداعباته التي تسرهم ولا تغضبهم، بل إنهم إن تأخر المد، وانحسر الماء وابتعد، خافوا وحزنوا، وابتهلوا إلى البحر أن يعود ويقترب، وقدموا له النذور والقرابين ليرضى ويجاورهم ولا يجافيهم.
لكن، في العقود الماضية، جرت عمليات طمر كبيرة للبحر، وطرد الماء إلى مسافات بعيدة، وردمت عيون الماء العذبة، وجرفت بساتين النخيل، بحجة الحاجة إلى مساحات أكبر من اليابسة للسكن والاستثمار والترفيه، وتذكر الرواية أرقاما مرعبة: «بدأت عمليّات الردم والتوسّع العمراني، في البداية، في مناطق المياه الضحلة القريبة من السواحل، كان هذا الأمر بعد اكتشاف الذهب الأسود. جزيرة الشارق كانت تبلغ مساحتها 32 كيلومترا مربّعا، تحوّلت اليوم إلى 80 كيلومترا مربّعا. أمّا الجزيرة الأمّ فتوسعت بما يقارب 250 كيلومترا مربّعا، وثمّة جزر صناعيّة لا تقلّ عن 40 كيلومترا مربّعا، وهكذا ردم البحر بأكمله، ليزداد حجم الجزيرة بما يعادل الضعف». وهذا التوسع الجائر أدى إلى تغيّر الخريطة عدة مرات، ويبدو أن العملية لم تتوقف حتى اللحظة.
والسؤال: هل يُمكن أن يُطرد البحر أو يُهزم؟ البحر قد يستكين، يصمت، لكنه لا يستسلم أو ينسى حقوقه، وإذا كنا نقر لأي دولة حقها في استرداد ما سُلب واغتصب من أرضها، أفلا يكون للبحر هذا الحق أيضا؟! والبحر عملاق جبار لا يُمكن التنبؤ بساعة غضبه وثورته. كما أن المؤشرات تؤكد أن بعض الجزر الصناعية بدأت تهبط، ليس بفعل البحر، وإنما بفعل الماء الذي يتدفق من الأرض، ولا يمكن وقفه، وهذا يشكل خطورة بالغة، ويهدد بكارثة وخسائر كبيرة.
الرواية تقرع ناقوس الخطر، وأن يتم وقف العبث بالحدود المرسومة بين البر والبحر، وضرورة الإسراع بحلول للمناطق التي تشهد هبوطا، والتفكير الجدي بمصالحة البحر وعدم الركون إلى سكونه المريب.
وبعد؛ إن رواية «المنسيون بين ماءين» الصادرة عن دار رشم في مدينة عرعر السعودية في 433 صفحة، رواية جريئة، ومغامرة إبداعية، نجحت في وصل الماضي بالحاضر، وحذرت من تداعيات اختلال العلاقات بين الكائنات، خاصة بين اليابسة والبحر، وعاقبة الاعتداء على البحر والاستيلاء على حقوقه، وتنذر من خطورة اتحاد ماء البحر وماء العيون للانتقام للمنسيين الذي غيبتهم ذاكرة العصر، وكانوا هم الأكثر حكمة وذكاءً عندما احترموا الحدود المرسومة، ولم يعتدوا أو يطمعوا بما ليس لهم، ولو كان حبة رمان. والرواية إشكالية، تثير عديد الأسئلة، وتستدعي إعادة النظر والتأمل في كثير من القضايا القديمة والحديثة، وهي من الروايات التي اشتبكت مع كينونة الدولة وماضيها وحاضرها بعين المحب والناصح الأمين.
------------
"القدس" موسى إبراهيم أبو رياش -كاتب أردني