أيوب طارش في لقاء صحفي نادر مع المساح: الفن ليس اكتشافاً للمجهول بل صياغة للواقع وتعبيراً عن أعماق النفس البشرية
الخميس 25 ابريل 2024 الساعة 14:22
المنارة نت

حوالي خمسين عاما عمر هذا اللقاء الصحفي الذي أجراه الصحفي والأديب الراحل الأستاذ محمد المساح، مع الفنان الكبير أيوب طارش، لصحيفة الثورة.

لقاء تفّرد به المساح أسلوبا وكتابة، حتى لكأن القارئ أمام رواية ورأي وخبر وتعليق في آن واحد.

بهذا اللقاء تجاوز الأستاذ المساح مبكرا مايُطرح في هذا الزمن من تقنيات جديدة وأساليب مبتكرة للمقابلات والأنماط الصحفية.

فقط لأنه المساح ملأ زمانه والمكان، ومثله يكون الصحفي والاعلامي المهني.. يعتبر الكلمة أمانة والانحياز لغير الأرض والناس خيانة..

وإليكم نص جزء من هذا اللقاء الصحفي، الذي نشر في صحيفة الثورة العدد 2169 تاريخ 28 فبراير 1975:

لقاء نادر وحصري مع الفنان أيوب طارش عن الأغنية  اليمنية ورحلة الحياة

-الفن ليس اكتشافا للمجهول لكنه صياغة للواقع

لقد عبر (أيوب طارش) طرقا متعرجة وشائكة.. إنها أيام الفقراء وحزنهم حين يتعبون .. رغم الليل في بلاد الآخرين وهم يبتنون القلاع لناس غيرهم ، ترن أصواتهم اليمنية بلحن شجي ومؤسى من حنجرة أحدهم.، تطول كثيرا يا زمن الاغتراب ويحن الصوت وكأنه صوت راعية بعد الغروب في وادي الصميته"، حنينها لم يتوقف عن وخزها بإبر الرحيل .. فيخترق الصوت ثنايا الاشجار المشوكة ، يهز الحجارة يدغدغ رمل السائلة، يحسن الصوت على شاطئ الليل:

يا عويد البلَس... مالك على الحيد الأطلس

قل لخلي غلَس ... قد باعني بيع وارخص..

يا الهي يا سماء النجوم الراقصة .. أعيدى لها القطيع ، فتعود حينها الاغنام والأجداء، وتبرز الثريا على سقوف القرى، والفتيات على السقوف ينتظرن من الدب القطبي تبليغ الحبيب بعضا من الشوق واللهفة وقليلا من بقايا خثرات القهوة المخلوطة بالزنجبيل في قعر "الحيسي" المتشقق الأطراف  فتتناجي القرى:

ارجع لحولك  .. كم دعاك تُسّقي

ورد الربيع .. من له سواك يجنى،

فيشق صوت  ايوب طارش جدار الليل، إنه  صوت القرى الوحيدة اليتيمة إلا من بُعد  الفراق، صوت هذا الرجل الآتي من قرى الأعبوس ، صوت الراعي الصغير الذي ظل في الشعاب والجبال يرعى "اجداءه" يصاحبه (نائيه) الوديع. 

لم يكن هذا الطفل الوديع ذو الوجه الاسمراني سيغني آلام القرى.. سينطلق مع دخان (المافي) وقت الغروب، يجسد اليمن وتربتها:

وادى الضباب ماءك غزير سكاب

نصفك سيول والنصف دمع الأحباب

عرفت هذا الرجل وأنا  صغير مثله ابن بائع متجول في مدرسة "العجيل" نهاية الخمسينات، أبوه يعمل عامل بناء وأبي الذي لا أعرف  قبره بعد، بائع الزبيب والريحان وعقود الفل والكاذي بعد المغرب في شوارع عدن.. رعى الله تلك الأيام، ووجدته معي في أروقة المعهد الإسلامي على طريق صيرة  للفترة من سنة 1960والى عام 1962 وكان أساتذتنا المعروفون  طريدي  الإمام.

منذ ذلك الحين، وبالذات لم أعد أشاهد ايوب طارش، ووجدته في سنة 1964م يجوب شوارع تعز وكأنه ضريراً  كان يحمل شيئا، اقتربت نحوه فاكتشفت العود.

• ما لك يا أيوب ؟

أعاد  عليّ  ببسمته المعهودة، -وما زالت تلك البسمة هي خاصيته-  هكذا الحياة

وكما يلف الزمن عمامته أيها الصحاب، طلع أيوب  طارش بصوته المعهود، وكانت البداية وما زالت البداية  وصوته يرن  على شفاه الأطفال :

[بلادي بلادي بلاد اليمن
احييك يا موطني مدى الزمن]

وكان لقائي بهذا الرجل رغم تهيبي من ترفع الفنان، وبالذات الفنان الغنائي، وبالأخص في بلادنا. والحقيقة فإن ترفع  الفنان كان باديا في الوجه رغم التواضع، هذا رأيي الشخصي، وربما اكون خاطئا ، لكن ايوب في اعتقادي فنان متواضع.

المهم كان محصلة ذلك اللقاء قليلا من بعض من الدردشة المتعارفة.

الوجود إيقاع وحركة

• على دروب الحياة الطويلة كانت تبرز تلك النتوءات، معاناتك للفقر، خشونات الدنيا رغم ذلك كانت الرغبة في اعماقك تقفز ، تتجاوز لتتجسد بعد حين كلمة الشاعر أو كلمة الناس وكان الايقاع واللحن .. ورن الصوت في الجو لتكون بعد ذلك مجتمعة - الأغنية  صوت فنان ،كيف كان لقاؤك  بذلك .. أو كيف تم ذلك؟

أجاب  أيوب طارش  بصوت خافت فيه حياء الفنان المبتدئ : 
طبعا الإيقاع موجود في الحياة بل وفي كلها،  الوجود ايقاع وحركة . لكن الايقاع يتلون ويتنوع فيأتي بعضه ليجعل لنفسه تأثيرا متميزا على السمع والنفس،ذلك الايقاع الحسي الذي يجعل الأشياء والأجسام  تتحرك، فالإيقاع حين يلتحم بالأغنية يصبح له طابع معين منسق فتتحرك  النفوس، وحينها يكون النغم

الايقاع النغمي يوجد مع الإنسان، حين يولد من أول سقطته نحو جاذبية الأرض  ويتحرك الانسان تلقائيا مع الايقاع، متى  ما وجد الايقاع والنغم الذي ترتاح له الأذن  والنفس، فحين كنت اسمع الايقاعات والحان الحياة من حولي، تدخل في نفسي بدون استئذان فأجد أني  أكررها  مع نفسي،وكان لا بد من أن أعبر عما بداخلي والأشياء التي أريد قولها .

بدأت أتناول  "الناي " حين كنت راعيا للغنم في الجبال والشعاب، فأجد لذة كبيرة حين تصدر من قصبتي أنغام حلوة تشجي  من حولي -يواصل ايوب طارش- عن بدايات لحنه، أخيرا  وجدت أن هذه الآلة الصغيرة لا تستطيع أن تعبر عما أريد قوله وبالأخص النغمات، وكانت مقابلتي مع العود  وأنا أجهل كل شيء عن أوتاره  وكيفية ضبطه ولا كيفية استخدامه، وبالتدريج كنت اكتشف العود-

ومازال الكلام لأيوب : النغمة في داخلي فكيف أصورها وأعبر  عنها في الوتر، فكل نغمة تأتي إليّ أفرحُ  وأُسَرُّ يوما بعد يوم، وانا اكتشف العود كنت اكتشف بالتالي النغمة التي اتحصل عليها، وأي نغمة لا أجدها  تتساوى مع الوتر بما يجيش في الداخل كنت أحس  بعدم الرضى.

الدخول إلى عالم الغناء

▪️ لقد كانت البداية إلى دخول عالم الفن - أي عالم الاغنية - اكتشافات دائمة ومستمرة، بل ومجهدة لأن  الداخل كان يتجسد عذابا .. وبمعنى آخر، فرحا لم يوجد بعد .. فكان لا بد من الوصول إلى بداية الطريق .. أي لقد كانت الرغبة شديدة وطامحة للخلق والعطاء  رغم ذلك التعب المريح في آخره لاكتشاف النغمة واللحن محدث حينها لشرح  التأثير في الاشياء كنتَ وقتها تملك شرود الراعى الصغير في محاولته عناق الكون والتفاعل معه .. أليس  كذلك؟

•جواب الفنان ايوب طارش:
 مرت بعدها فترة، حين كنت استمع من حولى مجموعات من الأنغام وكان ذلك "سماعي" ، ومحاولتي لتجسيد ذلك. وكان هنالك بعض الأغاني  تستهويني، صوت عبد الوهاب وأغانيه  كانت عالمي، فتسيطر عليّ سيطرة كاملة ، حينها بدأت محاولتي مع العود، وكان هدفي التقليد لكن "آلتي" الملعونة لم تطاوعني في ذلك ، وعبر اكتشافي واجتهاداتي المتواصلة قابلت العود في المنعطف - رغم عدم درايتي فيه، وبعد فترات من الزمن كنت أتحصل على تسجيلات فن يمني اصيل (المرشدي، محمد سعد عبد الله) بعدها قلدت العديد وكل ما كان يصل إلى مسامعي .. أتابع الكلمات احفظها ،اسجلها ثم أقلدها على الفور. وجدت نفسي بعدها أن أوجد لحنا مميزا له طابعي الخاص، وجدت ضالتي ، إنها  القرية وأغانيها ومن هناك بدأت بإمكانياتي الذاتية، وبعدها جاء رجال الكلمات وبدأت ادخل عالم الغناء.

▪️ العود والوتر قريب جدا الى قلب الفنان، تلك العلاقة الودية المتبادلة بين الفنان وعوده.. تصورك لهذة الآلة الصديقة للفنان ؟

ويجيب الفنان ايوب طارش: العود بصراحة يستطيع الفنان أن يعبر فيه بكل ما يختلج فيه من مشاعر وعواطف، وبالأخص بعد أن يعرفه ويتعرف على الأبعاد الكاملة لإمكانياته، وقبل ان أعرف العود كنت أواجه معاناة شديدة لأني لا أستطيع إخراج نغمات الحزن والتعب والبكاء، لكن بعد أن استوعبت إمكانياته كنت استطيع التعبير

ويضيف ايوب: لقد كانت معاناتي دافعا فعليا للتعبير عن النفس، واذا كان العود يملك امكانية هائلة فإن التغييرات في الواقع تفرض الوصول الى اكتشاف إمكانيات جديدة ومتنوعة حتى نثري الأغنية ونعطيها مضامين ايقاعية متعددة، وهذا لا يكون إلا باستيعابه الأخرى وبالتالي تتطور الأغنية ويكتمل لها التعبير الموسيقي المطلوب لأن تأثير التعبير المنفرد  غير تأثير التعبير الجماعي.

الفن صياغة للواقع

▪️هل الفن اكتشاف للمجهول كما يقولون، أو هو وصول الى عالم الحقيقة ورحابة الوجود؟ تصورك للفن عبر تعايشك المستمر مع الاغنية ؟

يبتسم الفنان، فيرد برنة خفيفة : الفن ليس اكتشاف للمجهول، لكنه صياغة للواقع وتعبير لأعماق النفس البشرية  والفن يملك هذه المقدرة على التعبير وتصوير كل ما يجيش في دواخل النفس البشرية .. فالفنان كالشاعر يملك المقدرة على التصوير والتعبير بطريقته الخاصة، والفن هو الذي يجسد الصورة التي  خلقها الشاعر وبالتالي يكون الفنان قد جسدها كاملة.

الأغنية اليمنية وطابعها المميز

▪️ ايوب طارش .. جزء تعبيري لواقع الأرض اليمنية وبألحانه المميزة، أين تضع أيوب طارش عبر طريق الأغنية اليمنية وتطويرها كما وكيفا ؟

يجيب الفنان: للحقيقة لا أعرف اين أضع نفسي ، وليس لي أيضا أي موقع محدد لكن اعتبر نفسي في بداية الطريق والحقيقة فإني أمام نفسي مطالب بأشياء واشياء حتى يأتي زمن تأخذ الاغنية اليمنية وقفتها ووجودها في العالم العربي .. وحتى تتمكن الأغنية اليمنية من الانتشار في الوطن العربي بطابعها وطعمها الخاص والمميز، وهذا لا يأتي الا بالتحصيل والدراسة وعدم حصر الفنان نفسه في آلة واحدة فقط وهي العود فلا بد من تكوين فرق موسيقية دارسة حتى يتسنى بالتالي وجود الاغنية اليمنية المكتملة وخروجها من نطاق الأرض اليمنية إلى الأجواء الأخرى.

——
اللقاء وفرته صفحة مراد عثمان العواضي، على موقع فيسبوك، بعد تفريغه وتنقيحه نظرا لصعوبة قراءة النص، بسبب تقادم عدد الصحيفة.

متعلقات