كان في زمن ليس عنا ببعيد أمير شاب، وأبوه الملك قد تقدم به العمر وعزم على التنازل لابنه ليكون خليفته.
ولما علمت الحاشية والرعية برغبة الملك العجوز، أخذت بالتزلف والتقرب من الأمير الشاب طمعا بمنصب أو ولاية أو تدر الخير وحليب السعادة لمن يفوز برضى الملك القادم.
كانوا كلهم أقرباء وأصهار وبني عم وأبناء كبار وزراء أبو الأمير.
فأثقل الهم قلب الملك القادم أيهم يختار وكيف يختار وقد أوصاه أبوه بخلاصة حكمة عهده يا بني لا تختر لوظائفك وولاتك إلا أهل الجد والإتقان والثقة ولا تولهم إلا بعد أن تمتحنهم.
وكان الأمير يتمشى في حدائق القصر فقادته قدماه إلى الأسطبلات الملكية.
فإذا هو بسائس الخيل يداعب عرف فرس غراء ويحدثها وهي مستكينة برأسها بين يديه وتحمحم وتهز برأسها كأنما تجيب عليه.
استغرب الأمير واقترب من السائس سائلا: وهل تفقه الخيل ماتحدثها به؟!
التفت السائس فإذا بالأمير أمامه فحياه كما تقتضي تقاليد القصر.
ثم أجابه: نعم يا مولاي الخيل تفقه ما نقول.
اقترب الأمير من الفرس وأخذ يطعهما من جزر كان هناك.
ثم خطرت ببال الأمير فكرة فسأل السائس: يا ترى هل تستطيع فرسنا هذه أن تكون عوني في اختيار كبار موظفي الدولة؟!.
ففهم السائس ما يمر به الأمير فرد قائلا:
يا مولاي إن تستشر الفرس تفتيك ولكنها عن إقناع الناس لا تغنيك ففي الناس لجاجة وغرور وإنما الفرس للحرب كسابة، لكن ألسن الناس في الحق كذابة، وإن شئت يا مولاي جئتك بما يكفيك الحاجة ويوفيك القصد ويعيفيك من الحرج وعتاب القريب الحبيب.
فقال الأمير: وكيف أأتمنك على أمري؟
فقال السائس: يا مولاي إنما أنا سائس للخيل تربيت بين أسطبلاتها وألفت الحيوانات والمزراع وتنقلت في الخدمة بين البيوت والدور والقصور ولا علم لي إلا بهذه العجماوات أفهمها وتفهمني فإن وفقني الله إلى قضاء قصدك أقمتني وإن لم أوفق صرفتني ولن أعدم اصطبلا يضمني وخيلا تحدثني.
فكر الامير وقال : كلام حسن فأتني بما قلت
فقال السائس: يا مولاي أمهلني ثلاثة أشهر فطلبك ليس يسير والوقت به كفيل.
فقال: نعم لك ذلك.
ومضت الأيام والملك العجوز ينتظر ميعاد ابنه لتولية العهد.
ومضت الثلاثة اشهر كمر البصر واتى السائس على الوعد ومثل بين يدي الأمير خالي الوفاض فانزعج الامير وقال للسائس وهو في بلاط القصر بين الحاشية : أين ما وعدتني به؟.
لم يخف انزعاج الأمير عن السائس لكنه أجاب بتأدب جم: يا مولاي إن فرسك المصون الغراء قد عافت الطعام لعلها استوحشتك فزرها علها تجد بعض السرور وتنقذها من المهالك.
ففهم الأمير الأمر وأعجب بتلميح السائس.
فقال له إذن فلتطعمها جزرا كالعادة وأزورها إذا ما فرغت وصرف السائس من بلاطه.
وفي العصر زار الأمير أسطبلات القصر واستقبله السائس كما يليق وقاده إلى احد مهاجع الخيل وهناك على مجثم خشبي وقف طائر ببغاء درة خضراء، حمراء المنقار، صفراء العينين، وردية القدمين معنقة بخط اسود يمتد من رقبتها إلى منقارها الأسفل.
استغرب الأمير وقال: ماذا أفعل بطير ببغاء وكيف يعينني على ما طلبت؟.
فقال السائس: انظر يا مولاي إن هذا الطير تربى على الحرية ولم يوضع في قفص قط وإنما يجلس على مجثمه لألفته بي وان شاء طار وفارقني إلى أقرانه في الغابات وقد روضته ولقتنه بالحكمة كلمتين فبحكمته الإعانة والأمانة والصيانة لما ترومه منه.
وأضاف : فخذه وألفه عليك ثلاثة أيام فإن أنس بك فضعه قرب مجلسك واسأله رأيه فيمن تقدم إليك بطلب الوظيفة والوزارة يفتك في أمرك وينقذك من الحرج.
وشرح السائس للأمير الشاب كيف ستتم المهمة فأخذه الملك القادم ومضى.
وبعد ثلاثة أيام استوى الأمير في مجلسه والطير إلى جانبه واستدعى الحاشية إلى بلاطه.
أخذ رجال الحاشية يمتدحون طير الأمير وجماله وصفاته بما لا يخطر على البال من مدائح.
لكن الأمير فاجأهم إذ قال لهم: إن طيري هذا كان في كنف قاض أمين وتعلم من مجالسته فصل الخطاب في المجرمين والطيبين.
واستدعى كبير الشرطة فقال له : أأتني من عند قاضي العاصمة بثلاثة مجرمين مدانين وبثلاثة تم تبرئتهم ثم أدخلهم علينا ولا تنبئنا بشأنهم.
ففعل صاحب الشرطة ذلك وأدخل الرجل الأول.
فإذا بالببغاء يصيح : سارق.. سارق ..سارق
ونظر الأمير والحاشية إلى صاحب الشرطة فقال: نعم صدق الببغان هو كذلك.
وأدخل الرجل الثاني فصاح الببغاء: بريء ..بريء ..بريء. فقال صاحب الشرطة: صدق الببغان هو كذلك يا مولاي.
وهكذا تعرف الببغان على كل لص وسارق، وبرأ كل ممن وجبت له البراءة.
وهنا أخذت رجالات الحاشية تكيل المديح والثناء على حكمة الببغان ممعنة في التطبيل والتهليل والتمجيد.
وعندها قال الأمير: اكتب يا حاجب القصر أنه برضا الأمير وثناء رجال البلاط قررنا أن يكون هذا الببغان هو مستشارنا في اختيار مسؤلي وكبار وزراء ورجال الدولة فكل من يرى نفسه أهلا للوظيفة فليتقدم للببغان فإن قال ببراءته عيناه وأعطيناه منصبا ومن قال بجرمه وذنبه سجناه أو فليثبت حجته للببغان فإن لم يقتنع الطير أقمنا عليه الحد المعلوم.
فأسقط في يد رجال البلاط من الطامعين للمسؤلية فما من يد خلت من الذم ولم تغل من سابق قريب أو بعيد من مال الدولة.
ولم يكن لأشجعهم جرأة أن يتقدم ليضع نفسه تحت حكم طير ناطق.
ولم يكن لأحد منهم مهما بلغ مقاله واحتياله وتطبيله من حجة بالغة يدافع بها عن نفسه أمام تهمة الببغان التي بانت حكمته للخصوص والعوام.
لهذا تحرج الجمع ولم يتقدم أحد.
فغضب الأمير وقال: يا رجال القصر أنتم أقرب المقربين للدولة فإن لم يتقدم منكم أحد فإني أوشك أن أسيء الظن بكم، وإن تقاعسكم عن التقدم للمهام العظيمة لهو ذنب وجرم بحد ذاته يستحق العقاب.
وهنا تعاظم حرج البلاط وازداد الوجوم وانعقدت الألسن عن الإجابة واكتفى الكل بما أصابه.