البروفيسور واسيني الأعرج، هو أكاديمي وروائي جزائري بارز، يشغل منصب أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس.
له العديد من الروايات، وحصد خلال مسيرته العديد من الجوائز أهمها: جائزة الرواية الجزائرية عام 2001، جائزة الشيخ زايد للآداب عام 2007، ونال أخيرا جائزة "نوابغ العرب" في دبي بالإمارات العربية المتحدة. عنها وعن الرواية وأحوالها وأمور أخرى كان هذا الحوار.
نلت خلال مسيرتك العديد من الجوائز كانت آخرها جائزة "نوابغ العرب"، التي اعتبرت بمثابة "جائزة نوبل" تحصل مرة واحدة في العمر. هل جائزة الأكاديمية السويدية هي الجائزة المثال بالنسبة إليك، أم أنها بعد نجيب محفوظ (قبل 35 عاما) أدارت ظهرها للعرب؟
أعتقد أن "نوابغ العرب" جاءت لتغطي نقصا فادحا بمسألة الجوائز المهمة والعالية التي تسير على نسق جائزة نوبل، لقد لجأت إلى المواصفات ذاتها واعتمدت الصرامة في التحكيم، وهذا شرط الاستمرارية. وأعتقد أن بعض جوائزنا تنقصها هذه الشروط مما يفقدها الصدقية. ولكن لا ننسى جائزة الشيخ زايد أو جائزة كتارا أو البابطين إلخ. كل هذه الجوائز مهمة على تفاوت درجة قيمتها. نعم، أثبتت جائزة نوبل أنها جائزة أوروبية بامتياز أو جائزة أنغلوساكسونية، لا تنتمي لا الى العربي ولا الآسيوي أو حتى الأفريقي فهي محصورة في دائرة معينة، لقد أعطيت لنجيب محفوظ بوصفه صوتا أدبيا مميزا ورجلا رسّخ فن الرواية العربية، ولهذا لا نقاش في أهلية نجيب محفوظ لهذه الجائزة، ولكن كان يفترض أن لا تتوقف عنده.
*نحن نترجم للآخرين الأدب العالمي وهو أمر مهم لكنه لا يساعد إطلاقا في انتقال أدبنا نحو العالمية*
ماذا أعطتك الجوائز وماذا أخذت منك؟
أهمية الجائزة تتلخص في كونها تثير النقاش حول نص من النصوص أو حول تجربة كتابية، هي لا تصنع كاتبا بكل تأكيد ولكنها تصنع رأيا عاما حول الكاتب، وتفتح آفاقا جديدة للترجمة ولا ننسى أن الندوات التي تعقد حول النصوص الفائزة أو حول الشخصيات التي فازت بالجائزة مهمة ومفيدة. ولكن تبقى المهمة الأساسية للكاتب أن ينتج ويبدع وأن يرمم النقائص ويذهب بنصه إلى أبعد نقطة ممكنة، أي أن يكتب باستمرار.
لا أعتقد أن الجوائز أخذت مني شيئا لأن الحالة الوجدانية التي أعيشها خلال الكتابة لا يمكن أن تسطو عليها أية جائزة. فالكتابة فعل مقدس، هي علاقة فردية بيني وبين اللغة، وحالة ذاتية شديدة العمق. الجائزة تساهم في التعريف بالجهد، ونحن نحتاج إلى مرصد ترجمي يعمل على ترجمة النصوص العربية إلى اللغات الأخرى، خصوصا اللغات الأوروبية والصينية واليابانية والإسبانية، تلك التي نستطيع من خلالها أن نوصل تجربتنا الادبية. للأسف نحن نترجم للآخرين الأدب العالمي وهو أمر مهم ولكنه لا يساعد إطلاقا في انتقال أدبنا نحو العالمية، لان العالمية تعني أيضا أن يخرج نصك الأدبي من دائرة المحلية ويذهب بعيدا إلى أكثر اللغات تعددية وإمكانا للقراءة.
تقول إن "الناس يُقبلون على الرواية التاريخية لأنهم لا يثقون بالتاريخ"، ما الحدود الفاصلة بين السرد التاريخي والسرد المعاصر في نصوصك؟
في السنوات الأخيرة شهدت الرواية التاريخية تطورا واضحا، بعدما كانت في وقت من الاوقات محصورة الأسباب ربما لعدم إدراك قيمة هذا النوع من الكتابات. بالنسبة إليّ أردت من خلال رواية "الأمير" مثلا، إعادة الاعتبار الى شخصية تاريخية عسكرية وسياسية وثقافية مهمة جدا هي الأمير عبد القادر. كثر تناولوا حياته من جانبها العسكري، وحتى في الكتاب المدرسي الجزائري صُوِّر الأمير وعلى ظهره بندقية، في حين كان الرجل صوفيا ومحاورا بارعا ومن الاوائل الذين اهتموا بحوار الأديان والحضارات. وبما أن التاريخ يكتبه المنتصرون، فهذا يحمّلنا مسؤولية إعادة قراءة هذا التاريخ وكتابته.
السرد التاريخي والسرد المعاصر ليسا الشيء ذاته ولا يعتمدان الطريقة ذاتها في سرد الحكايات، فالتاريخ يقيني أما السرد الروائي فلا يدّعي اليقينية، هو داخل مناخ فيه شيء من التاريخ ولكن فيه جزء كبير من التخيير الذي يعطي الأولوية للنص الأدبي على الكلام التاريخي.
إنتاج غزير
تقول إنك تكتب بصورة يوميةوهذا يفسر غزارة إنتاجك، هل تبقى الكتابة بشغفها ومتعتها وسحرها إن استحالت عملا وواجبا؟
نعم، الكتابة هي وظيفة يومية ولكني أؤمن بشرطين للكتابة: شرط الجدية والصرامة والمثابرة وشرط الحرية. المثابرة هي أن تجلس وتكتب، أنت لا تكتب في الهواء بل ينحتك الزمن من الداخل ويمر خارجك فتسلط هذه القوة على نفسك لكي تستقر في مكان، ولكن في الوقت نفسه لك حياة، أنا أستيقظ الساعة السادسة أمارس الرياضة، أركض من السادسة حتى السابعة تقريبا، ثم أعود إلى البيت أستحم وأرتاح قليلا ثم أبدأ بالكتابة.
*أؤمن بشرطين للكتابة: شرط الجدية والصرامة والمثابرة وشرط الحرية*
أكتب بقدر ما يتوافر لي من رغبة، فالكتابة يجب ألا تقهرها وتأتي بها عنوة، ولكنك إذا انسجمت في عمل أدبي وغصت في أعماقه، فستظل تكتب ويمر الوقت دون أن تشعر به. كتاباتي في الخمس عشرة سنة الأخيرة هي كتابات بحثية، أنتقل بين مختلف الأماكن التي تتصل بالنص وأتحسس رائحة الأشياء. فحين كتبت عن مي زيادة مثلا زرت قريتها ووصلت إلى بيتها القديم في الناصرة بفلسطين، حتى إني زرتها في مدفنها. مررت بمستشفى الأمراض العقلية الذي سجنت فيه ما يقارب السنة بعد اتهامها بالجنون. كل هذه الأمور بالنسبة إليّ هي جزء شديد الأهمية من الكتابة. فالكتابة ليست فعلا رومانسيا نمارسه في الغفوة، رومانسيتي في العمل والاجتهاد، ولا أعلم إن كنت أعتبر غزير الإنتاج لكني أشعر دائما أنني لم أقل كل ما اريد قوله، لا يزال هناك أشياء كثيرة أود تقاسمها مع القراء ولكن ذلك يقتضي عمرا آخر غير هذا العمر.
ما الذي يدفعك الى الكتابة؟ وهل للكتابة وظيفة اجتماعية؟
عوامل كثيرة، وهناك شيء غامض أنا لا أعرفه، هو شيء محفور في الأعماق، في الكتابة شيء من الغموض وفيها نكتشف عالما جديدا نعيد تركيبه والتخطيط له وإنشاءه من جديد، نحن نحمل شجنا اجتماعيا وطفولة وخيبات ونجاحات وانتكاسات وحبا وكراهية وأمورا أخرى. كل هذا عليه أن لا يبقى منعزلا بل أن يتحول إلى طاقة فعالة وخلاقة في الكتابة والإبداع الفني. نحن نكتب لنكون صوتا ولنسمع صوتنا في هذه الحياة الصمّاء، الكتابة نوع من الخلود، سنفنى إن لم نقل وسنحاسب إن لم نكتب، سيأتي جيل يسائلنا لو بقينا صامتين أمام القسوة التي تهز العالم.
الكتابة لها وظيفة اجتماعية وهي اخراج المجتمع من الظلام، وغرس سلسلة من القيم تعني الحاضر وتستمر الى العصور المقبلة، فنحن اليوم ما زلنا نستهلك كتابات القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، ونشعر بأنها تعنينا لأن الكتّاب الذين كتبوا في تلك الفترة اختاروا الموضوعات الممتدة في الزمان والمكان وعملوا عليها. لهذا أقول دائما إن الموضوعات الصغيرة هي طارئة ولحظوية، اما الموضوعات العميقة كالحرب والحب والإنسانية والضلال كلها قيم تستمر مع البشرية حتى النهاية.
القارئ
كيف تصف علاقتك بالقارئ، أتخشاه، أتود إرضاءه، أم أنك حرّ بالكامل عند الكتابة؟
القارئ آخر من أفكر فيه، أفكر في ما أكتب وكيف أتقن ما أكتب وكيف أتحقق منه، أسافر أحيانا من اجل معلومة صغيرة وأظل أبحث عنها إلى أن أجدها، أسأل الناس، أقرأ الكتب المختلفة حتى أصل إلى قناعة بأن نصي يستحق القراءة.
حين أنشر رواية فكأني أرميها في بحر لا أعرف إلى أين يقودها، نحو القرّاء الاعتياديين الذين يعرفونني او نحو قرّاء يرتادونني للمرة الأولى ويتعرفون اليّ، لذا أنا لا اكتب الى قارئ افتراضي لأني لو فعلت فسأكتب برعب.
وحين أكتب أكون أمام تحد وامتحان ذاتي حول المدى الذي تستطيع هذه الذات أن تقول الحقيقة كما سمعتها وكما اقتنعت بها وليس كما قالها المؤرخون وكما قالتها القصيدة، لقد كنت في كل مرة أغير سلسلة من المفاهيم رست عند الناس. ولو لم أفعل ذلك لكنت كتبت نصا ميتا وفقا لما يرضاه الآخرون. أنا أرضي نفسي ككاتب، وأفتح باب النقاش والمساجلة لمن أراد ذلك، لا أهرب من الاسئلة على الإطلاق لكنني لا أنصاع للقارئ.
الكتابة والعائلة
هل نلت ما يكفي من الحب واستعدت من خلال نجاحك حبا لم تنله من أبيك الذي رحل مبكرا؟
صحيح أن والدي استشهد خلال الحقبة الاستعمارية (1959) ولكنني في حقيقة الأمر استمتعت بحبه وأنا بعد طفل صغير. ما زلت اتذكره حرفيا بجسده الضخم وهيبته المخيفة وذاك الشعور بالأمان الذي يسقطه عليّ وجوده. صحيح أن هذا الحب الكبير سُرق مني، ولكني غُمرت بحب الجدة والأم التي كانت رمزا للمرأة المقاومة التي لا تستسلم، فهي مناضلة غارقة في العمل اليومي القاسي وهي مع ذلك تربي أطفالها الستة وتهتم بهم وتكبرهم وتمنحهم كل الحب والحياة والجمال. طبعا حين فقدت والدي سكن في داخلي شعور عارم بالفقدان، عوّض بعضه حنان المقربين خاصة جدتي الحكاءة، والبعض الآخر عوّضه فعل الكتابة الذي يرسم هذا النوع من التوازن الداخلي والنفسي.
*لم أكن أتخيل أن ذاك الطفل القروي سيصبح كاتبا ويصل الى أمكنة بعيدة ويزور العالم ويعيش الحياة رحلة يرويها*
والدك قتله الاستعمار، أختك زليخة قتلها الحب، أمك قتلها المرض، الذاكرة محشوة بالغياب ومثقلة بالموت، هل تعالجك الكتابة من هذه الآلام؟
حتما أنا محمّل بذاكرة الوالد الذي استشهد تحت التعذيب والذي لم نجد له قبرا حتى الآن وهذه هي المأساة، وأنا كنت من خلال الكتابة أصنع له قبرا. ونعم حين سرق من أختي زليخة التي كان لها حضور طاغ، حقها في الحب لأسباب عنصرية خلال الفترة الإستعمارية، بقيت في ذاكرتي وتحولت إلى نص في "شرفات بحر الشمال". ونعم أمي تعذبت هي الأخرى. تضاف إلى ذلك القرية التي نشأت فيها، لم تكن بيئتها بسيطة ولا عادية فكان عليّ أن اتحمل كل ذلك لكي أتمكن من العيش مع أسرتي والتعايش مع محيطي. كل هذا العالم نسميه في الحقيقة مدافن الكاتب السرية والكتابة تسمح لنا باستعادة هذا كله.
لا أعتقد أن الكذب قادني إلى الكتابة، فقد قررت أن أصبح كاتبا منذ كنت طفلا لكي اُسمع وأرى وأخرج من القرية. قرأت في فترة متقدمة الكثير من الروايات الكلاسيكية العالمية، لا سيما الفرنسية، وتركت أثرا جميلا في نفسي ودفعتني إلى تكوين الصورة المثالية والرحبة للكاتب. الكتابة نقلتني من قرية مهملة ومهمشة ومن دائرة مظلمة الى الضوء، لقد وَثَبت بي من عالم إلى عالم آخر. لم أكن أتخيل أن ذاك الطفل القروي سيصبح كاتبا ويصل الى أمكنة بعيدة ويزور العالم ويعيش الحياة رحلة يرويها، كان زاده الكثير من القناعة بأنه سيصل إلى الأقاصي مع نصوصه وعمقه ومخيلته، بوصفها منتجا من منتجات الجدة الأندلسية الحكاءة.
المصدر: "المجلة"