"لا تكتب قصائد حب!".. كانت تلك إحدى نصائح الشاعر الألماني ريلكه في "رسائل إلى شاعر شاب"[1]. أن يتجنب الكتابة في "الحُب"، لأنها الكتابة الأصعب، ولأن المرء يحتاج إلى طاقة كبيرة وناضجة كي يكتب شيئًا خاصًا في مجال وصلتنا فيه كميات من الكتابات الجيدة والباهرة أحيانًا. كما أن كتابة من هذا النوع، بالنسبة إلى كاتب جاد، هي دائمًا محفوفة بالمخاطر، لصعوبة نقل هذه التجربة الإنسانية من دون الوقوع في شرك الابتذال والتكرار، خصوصاً إذا كانت هي الثيمة الأساسية للكتاب، وليست مجرد ثيمة متضمنة داخل السرد الروائي، وخصوصاً مرة أخرى، لو كانت هذه هي الرواية الأولى لمؤلفها/مؤلفتها، وهو الأمر الذي سيدفعني كقارئة للتساؤل ببساطة: ما الذي قد يُضيفه هذا إليّ؟!
ذلك أن "الحُب"، معنى غير مفضل روائيًا في الأدب الحديث. ففي حين أخضعت الحداثة، وما بعد الحداثة، الكثير من المعاني الشائعة، وغيّرت نمط الحياة الإنسانية، فإن مفهوم الحُب، بتعاليه التقليدي الذي حوّله إلى معنى شبه ميتافيزيقي، كان أحد ضحايا هذا المجهر الإنساني الجديد بوصفه متغيراً، ككل المعاني اللصيقة بصيرورة الوجود الإنساني. وهو ما جعلنا نطرح التساؤلات حول هذه الفقاعة الكبيرة المسماة "بالحُب"، بشيء من الحرية أحيانًا، تلك التي تُحررك من البحث عما لا وجود له، وبشيء من الغبن في أوقات أخرى لنزع "السحر" الغرامي عن العالم.
لذلك، اختارت الروائية الأميركية سارة دان، مؤلفة رواية "الحب الكبير"[2]، أن تخوض غمار التحدي بالكتابة عن الحب بعفوية تثق في صوتها الداخلي، لتُخرج تناول الحُب من إطار الكليشيه الملحمي، إلى صورة لعلاقة عاطفية عصرية على الطريقة الغربية، بحميمية آسِرة في السرد. فبدت امرأة متأملة في ذاتها، تتعرض لصدمة عاطفية، تحتاج، كي تتحرر من ثقلها، لأن تكتب رسالة لصديق تشرح له حالتها. لكن ما يحدث هو أنها تجد هذه الرسالة قد طالَت وتحولت إلى رواية، وأن هذه الرواية انتهت إلينا نحن القراء، فنقلتنا من خلالها إلى قلب العاصفة التي تعيشها الشخصية الرئيسة للرواية، فيما يقرر صديقها هجرانها على نحو مفاجئ بعد أربع سنوات من العلاقة خارج الزواج، وهي في عمر الثانية والثلاثين، وهو ما يتجاوز الألم العاطفي إلى الأشباح الخاصة بالنساء: "هاجس العنوسة" و"حلم الأمومة"، وهي بطبيعة الحال ألفاظ إشكالية، تطرح تساؤلات نسوية عصرية مشوبة بكبرياء النساء من قبيل: هل العنوسة هاجس؟ وهل الأمومة حُلم؟ هنا ندع هذه الأسئلة جانبًا ونقرر أن نستمع إلى صوت الشخصية الرئيسية في الرواية.
اسمها أليسون هوبكنز، وهي تنتمي إلى الطائفة الإنجيلية. طائفة، وفقاً لوصفها، "متشددة دينيًا"، تحظر على أفرادها ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، وهو ما جعل أليسون تحافظ على "عذريتها" حتى سن الخامسة والعشرين الذي تقرر عنده التحرر من معتقدات طائفتها ووضع حد لهذه الحالة، منتظرة خلال ذلك أن تعثر على الزوج المناسب، الذي تحول بالنسبة إليها إلى هاجس منذ سن الثالثة عشرة، لأنه صورة للمتعة الممنوعة، وهو ما جعل عدم تحققه، أي زواجها، يعني خسارة فرصتها الوحيدة في التجربة. وهنا يمثل هجران صديقها "توم" لها، الحدث الذي يزيح الستار عن عُقدها الشخصية التي سكَّنها "وهمُ الحُب الكبير". العُقد التي خلّفتها تربيتها الدينية المحافظة في مجتمع متحرر، وتلك التي اعتقدت أنها تخلصت منها، أو أخرجتها من اللاوعي إلى الوعي. لكنها ما زالت تحكم حياتها ونظرتها لذاتها وللآخر. بدا الحدث إحدى تلك الصدمات التي تُخرج إلى السطح حتى أغبى وأتفه الأفكار والمخاوف، فتبدو سردية من الكوميديا السوداء، كتفكير أليسون بقلق بأنها ستكون "عانس العائلة"!
على أن العُقدة الكبرى التي حكمت حياتها النفسية وخلقت لديها حساسية عالية اتجاه رؤيتها لذاتها ورؤية الآخر لها، وهي ثيمة أساسية في الرواية، تتعلق بأنها محدودة التجارب في العلاقات الحميمية، وهو ما كان يشعرها على الدوام باحتمال افتقارها للخبرة اللازمة لجعل حياتها الخاصة أفضل مما هي عليه. وهو السبب ذاته الذي كان يشعرها بأن العالم كله يمتلك خبرة في العلاقات الإنسانية تُهيئه لتبادل الإشارات والرموز طوال الوقت، حول الرغبات والتفضيلات، بلباقة تعفي صاحبها/صاحبتها من مناقشة الأمر. بينما كانت أليسون، في الجانب المقابل، تشعر بالعناء اتجاه كل حركة تصدر منها نحو الآخر. فلم تستطع أن تمنع نفسها في أي لحظة، رغم كرهها لذلك، من إلقاء اللوم المستمر على تنشئتها الدينية التي خلّفت فيها من العُقد ما لم تستطع طوال حياتها أن تتجاوزه. وحينما قررت التوقف عن الالتزام بتعاليمها الدينية، وممارسة حياتها كامرأة متحررة، صارت عبارة عن صورة كاريكتورية لما تريد أن تكونه. فلم تعد تلك القديسة التي تنتظر زواجاً مباركاً سيحفظ عفتها وطهارتها، ولا هي تلك المرأة المتحررة المؤمنة حقاً بحريتها في اختيار الحياة التي تلائمها. صارت المرأة التي تحاول أن تكون متحررة، وهي مسكونة بهواجس الماضي، إلى حد أنها، لمّا هجرها صديقها، كان أول ما خطر لها هو: "إذن هكذا اختار الله أن يُعاقبني"! وشعرت للحظة بأن المدرسة الدينية كانت على حق في قولها، فما حاجة توم إلى "البقرة إن كان يحصل على الحليب مجاناً"!
ومثّل حدث الهجران تجليًا لمشكلة نفسية أعمق تكرّست طوال السنوات التي تلقّت خلالها تنشئتها الدينية في طفولتها، تلك التي خلقت لديها خللاً في هوية الذات. فلم تعد تعرف أي الأشياء ينتمي إليها وأيها ينتمي إلى الآخر، لم تعرف ما هي هويتها الخاصة كامرأة وإنسانة مستقلة بذاتها عن الطائفة الإنجيلية ومواعظها. هذه الحالة الغريبة خلقت لديها شعورًا من انعدام الثقة في غرائزها كأنثى، بل ما عادت تجد غريزتها في مكانها، لأنها باتت مزيجًا من القلق والهواجس والأفكار المتضاربة طوال الوقت، متسائلة عما يمكن أن تفعله امرأة طبيعية الغرائز في مكانها. وكذا، لم يكن انهيارها، بعد هجر صديقها لها، صدىً لحالة مجردة من المعاناة العاطفية التي يولدها الفراق. بل كان القلق الذي يسكن امرأة تجاوزت الثلاثين عامًا، وهي غير متزوجة وليس لديها صديق، وليس لديها أي فكرة عن مستقبلها سوى الخوف من أنها لن تنجب الأطفال وستموت وحيدة وغير محبوبة، تنفجر بالبكاء حين تعي قلق السؤال بكامل ثقله: "ما مصيري الآن؟ مَن سأصاحب؟ وماذا سأفعل؟". فالأمر لا يتعلق على نحو شخصي بصديقها الذي ظنّت أنه حبّها الكبير، وإنما بالمجهول الذي لطالما خشيت التحديق فيه وجهًا لوجه، فتمسكت بتوم وكأنه السبيل الوحيد لنجاتها منه، وكل ما كانت تفكر فيه ليس حبها لـ"توم"، وإنما كيف تتفوق على ذكائه وتُعوّده عليها وتحوله إلى خطيب وثم إلى زوج وأب، لتتساءل في النهاية: هل هو "الحُب الكبير" الذي تبحث عنه؟ أم أنه مجرد شخص مناسب سمح لها بأن تعمل على علاقتهما وتطورها؟ وفتحت بهذا السؤال المسكون بالقلق، نافذة لمراجعات كثيفة وجريئة في حياتها، وحياة القارىء، حيال كل ما ظن أنه "حب" في يوم ما من حياته.
الرواية تكثيف مخيف لكوابيس المرأة، وهي بذلك تتجاوز حدود التجربة الفردية إلى المعاناة الإنسانية التي تجمع نساء العالم على تعدد خلفياتهن الثقافية والدينية، حين تنفذ إلى القلق الوجودي المرتبط ببيولوجيا الأنثى. تقول أليسون لصديقها: "لا يمكنك أن تفهم هذا أبدًا، فالتقدم في السن إلى درجة عدم القدرة على إنجاب الأطفال، ليس أحد همومك". كما تعبّر عن القلق الغريب الذي يخلقه الرقم "30" في حياة المرأة، إلى حد الحرج! ذلك الذي يجعل الرجال يتخوفون من إقامة علاقات معها، انطلاقاً من فكرة أنها في مرحلة عمرية خطرة، ومن ثم فإن كل همّها هو الإيقاع به في وقت قصير وإنجاب طفل منه، قبل فوات الأوان. بينما لو كانت أصغر، في أي رقم بجانب العشرين، فستكون هي والآخر أكثر استرخاء في العلاقة. تقول لها صديقتها: "لقد أضعتِ فترة التنفس على توم". فببلوغها الثلاثين، تكون تجاوزت العمر الذي بوسعها فيه أن تتباطأ وهي مطمئنة إلى خيارات وفرص أخرى في انتظارها، وإلى أنه لا بأس في تجربة لم تنجح في تخطي كونها تجربة حياتية، وأنها ليست مصيراً شبه نهائي لشكل الحياة الآتية.
وقد تُرى هذه السردية مبتذلة للغاية، وكأنها تؤطِّر صورة نمطية عن عالم المرأة، وهو ما جعل هذه الرواية محل نقد لاذع ضيّق الذرع بالرؤية التي لم تزل أسيرة هواجس الجدّات ذاتها في عصر تغيّرت فيه المعايير، وما زالت تسوّق مفاهيم "الفطرة السليمة" "والغريزة الطبيعية". لكن، ماذا لو كانت هذه الهواجس، التي تبدو تافهة إلى حد مزعج، تحكم حياتنا فعلاً، وتتحول إلى معاناة سرّية؟ ومَن ذا بوسعه أن يُنكر أن نساء كثيرات لم يتجاوزن فكرة الحاجة الضرورية للآخر من أجل حياة طبيعية وصحية، حتى ولو فعلن ذلك نظريًا، إلا أنهن لم يستطعن في الواقع أن يتجاوزن إحساسهن الشخصي بالنقص، بوحدتهنّ، وأنهن غير محبوبات أو مهمّات لأحد على نحو شخصي، وأن ثمة حياة أخرى كاملة من السعادة التي يعيشها الآخرون قد فاتتهنّ بلا عزاء ولا أمل؟
أفكر أنني لم أكن سأحبّ شخصية أليسون هوبكنز، لو كانت واحدة من دائرة معارفي، فما كنت سأحتاج لأمرأة لا تمنحني أملًا بأن في وسعي أن أكون وحدي، وسعيدة ومرتاحة، وأن الأمر لن يمثل أزمة حقيقية في حياتي. ولم أكن كذلك سأحبّ الدراما التي تثيرها أليسون حولها في أن "يكون المرء هواية ذاته". غير أني أحببت ذلك الدفق الساحر للصدق الحميم في كلمات هذه الشخصية. الصدق الذي يجعل قلب الآخر شفافاً تماماً، ويمنحك حق الدخول، من دون أن تشعر بأي جهد شخصي بذلته المؤلفة في تنظيم روايتها، حتى بدت أنها تتحدث بانفعال طوال الوقت عن نفسها، هي، وعن مشاكلها وعن كل ما يخطر في بالها من هواجس وأفكار. وكان لذلك أن يخلق واسطة رائعة للتواصل بين النساء، تضعنا وجهاً لوجه مع الكوابيس الممكنة في عالمنا الخاص، نحن النساء، وتوقظ عبر كلماتها غريزة المرأة ثاقبة النظر ذات الخطوات الحذرة. المرأة التي تعيش مخاضها الخاص ورحلتها في البحث عن الحياة التي تريدها، ولا تستلم لضعفها، بل تواجه العاصفة لتخرج بأمل لحياة جديدة نابضة ومنفتحة على ذاتها والآخر، بشعور رائع في القلب حين تشرق شمس الحياة مرة أخرى، معلنةً فصلاً جديداً تذوب فيه ثلوج الماضي وكأنه لم يكن شتاء قط.
[1] راينر ماريا ريلكه، "رسائل إلى شاعر شاب"، ترجمة: صلاح هلال، دار الكرمة للنشر، القاهرة، 2018م.
[2] سارة دان، "الحب الكبير"، ترجمة: زينة جابر إدريس، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2007.
المصدر: "العرب اليوم"