مع هذا، من اللازم علينا كيمنيين، عدم الإسراف في جلد الذّات خصوصاً عند معرفتنا أن تاريخ الشعب اليمني طيلة الدويلات الإمامية المتقطعة، لم يكن سوى سلسلة من محاولات الانعتاق تنوعت ما بين الثورة والإصلاح.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإن المشروع الإمامي استفحل في واقع اليمنيين وباض وفرّخ بسبب شساعة البَوْن بين طباع اليمنيين القائمة على التسامح والتغافر والصفح وحسن الظن وعدم تصور أن ثمة من يمكن أن يتجرأ ويكذب باسم الله ورسوله، في مقابل طبيعة المشروع الإمامي العنصري القائم على الحيلة والمكر والدجل والخديعة، وارتداء لبوس الدين! واليمني أسهل ما يمكن مخادعته إذا جيء له من باب الدين.
زدْ على ذلك أن الإمامة السلالية لم تبدع في شيء قدر إبداعها في ابتكار وتنفيذ جملة من المصدات التضليلية التي تضمن لها البقاء وتحول ما بين الشعب وصحوته.
أكذوبة الألف عام!
منذ أن جاء الغازي يحيى الرسي 284 هجرية، استمر المشروع الكهنوتي ما يزيد عن ألف ومئة عام، كمشروع هدم للذات والحضارة اليمنية، لكنه لم يتمكن من الحكم إلا في فترات متقطعة وعلى مناطق محدودة من اليمن. ولو استمرت إحدى الدويلات الإمامية فترة سبعين عاما على كامل الأرض لما بقي لليمنيين كيان ولا ذرية لأن فترات الأئمة السلاليين كانت على الدوام فترات مذابح وحروب وهلاك للإنسان والعمران والعلوم.
خلال هذه المدة الطويلة تداول اليمنيون حكم بلادهم منذ الزياديين والحواليين واليعفريين والصليحيين والنجاحيين والرسوليين والزريعيين والكثيريين والقعيطيين والطاهريين والسلاطين، إضافة إلى فترات المماليك والأتراك والانجليز.
مع ذلك ظلت الإمامة مشروعا متصلا عابرا للمراحل كحيّةٍ ملساء ذات سم قاتل وحقد مزمن على كل ما يمني وعربي.
ثورة الفقيه سعيد
وأثناء الفترة الكهنوتية القاسمية وبعدها المتوكلية، في القرنين الماضيين، استمرت المحاولات الدائبة من قبل اليمنيين للخروج من ربقة الإمامة، تارةً بالدّور الإصلاحي الذي تبناه بعض العلماء والمصلحين، أو عبر الطابع الثوري الذي كانت تعتمده القبائل ضد الإمامة. على أن أبرز الثورات اليمنية (خلاف تناحرات الأسرة القاسمية ضد بعضها)، كانت ثورة الفقيه سعيد بن صالح ياسين سنة 1256هجرية، في منطقة الدنوة محافظة إب، وهي الثورة التي أسقطت 360 حصناً تتمركز فيها جحافل النهب والسلب، ودعا الإمام سعيد لنفسه، وصكّ العملة وعيّن الولاة وامتد نفوذه من “سُمارة” شمالاً وحتى “أبين” على ساحل بحر العرب جنوباً.
في كتابه "حياة عالم وأمير"، يقول مؤرخ اليمن محمد بن علي الأكوع عن هذه الثورة: “وتعتبر هذه الثورة التي قادها الإمام العارف بالله ثورة الحق على الباطل، وثورة الإصلاح على الفساد والفوضى، وثورة الإنسانية على الوحشية الشنعاء وثورة بيضاء نقية وعدل ناصح على الظلم الحالك وثورة الضعيف المقهور على الجبروت الجلاّد، وثورة التوحيد بلا إله إلا الله على ما يشبه الانحلال والفراغ النفسي. ولكن للأسف الشديد أن هذه الثورة لم تستكمل عناصرها ولم تتخذ لها العدة اللازمة من السلاح والعتاد والخيل والرجال، ولا تحددت أبعادها ومصائرها، ولم تعرف جيداً أنها ستواجه خيانات ومؤامرات ومقاومة”.
الحركة الوطنية اليمنية
لكن الاكتمال الأبرز في نضال اليمنيين ضد المشروع السلالي الكهنوتي جاء متمثلاً في الحركة الوطنية اليمنية التي بدأ نشاطها منذ الربع الأول من القرن الماضي وتكلّل بإسقاط المملكة المتوكلية الوثنية في شمال اليمن في السادس والعشرين من سبتمبر 1962، تلك التي أعقبتها بعد عام واحد، شرارة الرابع عشر من أكتوبر 1963 ضد المستعمر البريطاني في الجنوب.
مارست الحركة الوطنية اليمنية كافة أساليب التغيير ومرّت على أطوار تدرجاته، بدءاً بالنصح، مروراً بالمعارضة العلنية السلمية، وصولاً إلى الانقلاب، وانتهاء بالثورة، بما يشتمل عليه معنى الثورة من تغيير جذري للواقع المباد وبناء جذري للعهد الجديد.
والمؤكد أن وصول الحركة الوطنية إلى طور التغيير عن طريق “الثورة”، كان نتيجة لوصولها –في نضالها ضد المشروع الإمامي– إلى مرحلة النضج، بعد أن اكتملت دراساتها ورؤاها حول عقم ذلك المشروع واستحالة تعديله أو التأثير فيه، لذلك نجد الدولة المتوكلية شهدت طيلة 4 عقود من الحكم، سلسلة من الأحداث والثورات ملخصة على النحو التالي، وأغلبها مستقاة من الأعمال الكاملة للمفكر محمد أحمد نعمان (الفكر والموقف):
– في عام 1919 ثار الشيخ محمد عايض العقاب في منطقة حبيش ومعه كافة مشائخ لواء إب وتعز، وحوصر أخو الإمام في مركز المديرية 3 أشهر، وانتهت ثورة العقاب بعد استبسال عنيد ضد جحافل الطاغية يحيى بقيادة علي بن عبدالله الوزير (3).
– في عام 1919م: دبر الطاغية يحيى اغتيال شيخ الإسلام محمد جغمان ورفيقه القاضي السدمي، والشيخ مصلح مطير، ثم مجموعة من الهاشميين أيضاً آل أبي الدنيا.
– في عام 1921: اعتُقل مشايخ المنطقة الوسطى في اليمن (إب وتعز) وظلوا في السجن حتى مات أكثرهم ولم يسلم منهم غير من أبعدوا عن مناطقهم ثم أعدموا على المشانق.
– عام 1928: سُجن من قبيلة الزرانيق -وهي أقوى قبائل المنطقة الغربية من اليمن (تهامة)- 800 يمني سيقوا إلى حجة مربوطين بالسلاسل، سيراً على أقدامهم مدة أسبوع كامل، ولم يفرج عن أحد منهم من السجون حتى ماتوا جميعاً.. وفي منفى “حجة” الشهير منطقة تسمى مقبرة الزرانيق.
- عام 1936: تم اعتقال طلائع الأدباء الأحرار بعد أن شكلت أول جمعية سرية تنادي بالإصلاح في اليمن فروعها ذبحان، تعز، إب، صنعاء وكان في مقدمة المعتقلين في صنعاء أحمد بن أحمد المطاع وفي ذبحان أحمد محمد نعمان الذي سجن في تعز.
– عام 1938: اعتقلت البعثة التعليمية والعسكرية من الشباب الذين تدربوا في العراق وفي مقدمتهم الشهيدان محيي الدين العنسي، وأحمد حسن الحورش.
– في عام 1939: اغتيل الشهيد أحمد عبدالوهاب الوريث مسموماً على يد أحد أبناء الطاغية يحيى.
– عام 1943: هدد الطاغية أحمد كل الأدباء (وكان حينها ولياً للعهد) بأنه سيسفك دماءهم ما داموا يحملون الأفكار “العصرية”، فأنذر هذا الأحرار وحفّزهم لوجوب التحرك على نحو آخر، فلجأ بعضهم إلى عدن، وأعلن عن قيام حزب الأحرار اليمني.
– عام 1944: شهد اليمن الاعتقالات الشهيرة ب”اعتقالات الأحرار” وقد شملت كل المستنيرين والمأثور عنهم مجرد الرغبة في التقدم، وقد شملت الاعتقالات النابهين من الشباب والشيوخ في كل من صنعاء وإب وتعز.
– 1946: لجأ إلى عدن سيف الحق إبراهيم بن الإمام يحيى منضماً لحزب الأحرار.
– 1948: قُتل الطاغية يحيى واثنان من أولاده وأحد أحفاده ورئيس وزرائه، علي يد الشيخين الثائرين القردعي والحميقاني، وأعلن عن قيام حكومة دستورية، ولما سقطت الحكومة الدستورية، أُعدم دون محاكمة كل من:
عبدالله بن أحمد الوزير، محمد بن محمد الوزير، عبدالله بن محمد الوزير، علي بن عبدالله الوزير، حسين الكبسي، أحمد المطاع (وهؤلاء من الأسر الهاشمية)، ومعهم القائدان العسكريان محمد سرّي الشائع، وجمال جميل العراقي.
وكذلك المشائخ والأدباء: محيي الدين العنسي، محمد صالح المسمري، أحمد حسن الحورش، أحمد البراق، عبدالوهاب نعمان، الخادم أحمد غالب الوجيه، محسن هارون، عزيز يعني، صالح بن حسين الشائف، محمد ريحان، هارون بن محسن هارون، علي بن ناصر القردعي، محمد الراعي، أحمد العنجبة، عبدالله أبو راس، محمد حسن أبو راس، على سنهوب، محمد بن ناجي الحسيني، محمد قائد الحسيني، عبدالله الحسيني، حمود الحسيني. أما فيلسوف الثورة الشهيد حسن الدعيس فقد تم اغتياله بعد عودته من عدن بدس السم في طعامه بواسطة عامل تعز.
– عام 1955: انفجر البركان من جديد بقيادة الشهيد أحمد الثلايا، وأرغم الطاغية أحمد على التنازل عن العرش بعد تهديده بالقتل، ثم انتكست الحركة، وأُعدم دون محاكمة: المقدم أحمد الثلايا مع الضباط العسكريين: عبدالرحمن باكر، علي حمود السمة، قائد أحمد معصار، حسين الجناتي، محسن الصعر، أحمد الدفعي، القاضي يحيى بن أحمد السياغي وشقيقه حمود، والقاضي عبدالله الشامي، ومحمد حسين عبد القادر، والمشائخ: عبدالرحمن الغولي، وعلي حسن المطري، ومحمد ناصر الجدري، ومع هؤلاء أيضاً عبدالله والعباس، شقيقا الطاغية أحمد.
– عام 1956: اغتيال الشهيد أحمد بن ناصر القردعي، بالرصاص وهو سجين في أحد سجون (حجة) بأمر من الطاغية أحمد.
– عام 1957: قامت قبائل (صرواح) بتمرد مسلح قوّى الدعوة لتغيير نظام الحكم الهاشمي وإلغاء التمييز السلالي في اليمن.
– عام 1959: تمردت قبائل القبّيطة واليوسفيين في الحجرية، متذمّرة من سوء الأوضاع وتعسف السلطات، كما تمرد الجيش في تعز والبيضاء وحجة وصنعاء، وأحرقت منازل بعض المسؤولين، كما قتل وسجن بعضهم أثناء غياب الطاغية أحمد في روما للعلاج في إحدى المصحات العصبية. وبعودة الطاغية من إيطاليا زاد التوتر وتمرّدت القبائل بقيادة الشهيد حميد بن حسين الأحمر (داعية الجمهورية)، ولكن لم يقدر لحركته النجاح عام 1959، وأعدم هو وأبوه الشيخ حسين بن ناصر الأحمر، ورفيقهما الشيخ عبد اللطيف قائد راجح دون محاكمة.
– عام 1960: لم تتوقف القبائل عن إعلان سخطها وتذمرها في صور مختلفة فانتشرت القلاقل في البلاد منذ إعدام الشهيد الأحمر وحُوول اغتيال الإمام على يد الشهيد سعيد حسن المعروف ب”إبليس”.
- عام 1961: قام الثلاثي الثائر، اللقية والعلفي والهندوانة، بمحاولة اغتيال الطاغية أحمد في مستشفى الحديدة، تلك المحاولة التي اعتلّت بعدها صحته ومات في 19 سبتمبر 1962.
***
تكامل النضال
يأتي الحديث عن تكاملية الحركة الوطنية استجلاءً لقرارة الإخلاص في أفئدة رجالها الذين حملوا بين ضلوعهم آلام الشعب وأحلامه ولم يألوا جهداً في سبيل رقيِّه وانعتاقه في دربٍ مجيد عُمِّد بأرواح المئات من خيرة أبناء اليمن.
وتجسد تحت لوائها الوحدة الوطنية كأبهى ما يكون، حيث كانت كتيبة الأحرار مكونة من كل مناطق شمال البلاد ومن كافة فئات المجتمع وتضافرت في خضمها مجموعة متناغمة من الأدوار والطاقات والمواهب.. بدءاً بالجانب الإداري الدقيق الذي تولى مسؤوليته الأستاذ أحمد محمد نعمان الرائد والمفكر والأب الزعيم الذي شكل أول نواة تنظيمية للحركة الوطنية في “نادي الإصلاح الأدبي” بذبحان تعز، وأقام أول تنظيم يمني شامل “الجمعية اليمنية” 1935م في أول لقاء بينهما في تعز(7)، ثم مثّل مع القاضي الشهيد محمد محمود الزبيري الثقل المعنوي لمشروع الثورة، ذلك الذي أذكته قصائد الشهيد الزبيري وأقامت صلواتها في محراب وُلوجه.
وعبر صفحات مجلة “الحكمة”، منتصف الثلاثينات، بدأت تتسرب بعض نسائم التنوير إلى أذهان النخبة في صنعاء.
وفور عودته من بغداد قام الشهيد المربي أحمد الحورش بتوزيع نسخ من “طبائع الاستبداد” للكواكبي بعضها منسوخة بخط يده.
وهكذا وجدت معاني التحرير طريقها إلى الوعي اليمني بشيء من الكتمان والسرية، ومن ثم بدأت تشق طريقها على صعيد السلوك؛ تمثلت أولى الثمار في مطالبة الأحرار الإمام يحيى باعتماد دستور يحكم الشعب على أساسه، وكان إدراك الأحرار أهمية هذه الجزئية إنجازاً بحد ذاته، بفعل سطوة الخطاب اللاهوتي المترسخ في الوعي اليمني وجهل الشعب كلية بما يسمى القوانين أو اللوائح، واستخدم الإمام هذا الجهل لمحاربة المشروع الإصلاحي للحركة الوطنية، وأشيع بين العوام أن الدستور رجل خبيث وشرير يسعى هو وزوجته إلى اختصار القرآن، ويمهّد للغزاة المحتلين(8).
رفض الإمام يحيى مطالب الثوار فقاموا باغتياله وأعلنوا قيام مملكة دستورية لم تستمر سوى بضعة وعشرين يوماً وتسقط على يد ولي العهد أحمد الإمام الجديد الذي أعمل السيف في رقاب الانقلابيين، وأودع الباقين السجن، وكان من رحمة الله باليمن أن فشلت تلك الحركة التي وان طالبت بدستور الا أن أبقت على أرضية الإمامة واستبدلت إماما بإمام.
أدرك هؤلاء الباقون من خلال فشل ثورة الدستور 1948 أن معركة الوعي لم تكتمل بعد، وأن الشعب لم يزل غير مهيأ للتغيير، وأن التغيير محال بغير سندٍ من عامة الشعب، فاتجه خطابهم نحوه من جديد، ولم يكن غائباً عن الثوار ”أن اليمن أعظم بلاد أصيبت في رجالها وأصبحت ما بين قبيلة تقدس الشخصيات المزيفة التي تحكمها باسم الدين والشريعة، وتتخذ منها آلهةً تقدسها وتسبح بحمدها، في الوقت الذي تطول عليها بسياطها المحرقة، ثم تصول بها على العاملين في إنقاذها، فهي كالآلة العمياء يجمعها طبلٌ من الدجل والتضليل، ويفرقها سوط من الطغيان والجبروت، وما بين أشخاص مذبذبين يميلون مع ما يتفق ومصالحهم الشخصية”(9).
وأدرك الأحرار أنهم لن يتمكنوا من تغيير الواقع الإمامي، “لأننا كيمنيين لم تزل ذرات دم العبودية والضعف في عروقنا أكثر من ذرات الدم الحر القوي التي إذا كثرت في صاحبها جعلته قادرا على الخلق والبعث. اللهم إلا إذا مكنتنا القدرة الإلهية من سحق ذرات العبودية المعششة في دمائنا، المفرخة في عقولنا، الجاثمة في أعصابنا.. إننا بحاجة ماسة إلى التخلص من وطأة هذه الذرات… إننا ضعفاء وعبيد نفوسنا وأمزجتنا، فالعبد مهما كان ذكاؤه، ومهما كان توثبه، فإن شعوره بالعبودية يحول بينه وبين الإبداع والابتكار”(10).
وأدرك الأحرار أيضاً قيمة الحرية، ووجود حكم يضمن حرية التفكير والعمل “فإذا ما وُجدت حرية التفكير والعمل، استطعنا أن نبني الحياة الجديدة، بناء صحيحاً قوياً ثابتاً، وأن نخطو خطوات واسعة لا نستطيع أن نتصورها الآن”(11).
وكنتيجة لهذا الإدراك انطلقت أبيات الشهيد محمد محمود الزبيري باتجاه الشعب لإيقاظه من سباته، تارة تستحثه، وتارة تستفز فيه بواعث النخوة وكوامن الحياة..
الزبيري؛ ذلك الذي آمن بالشعب حتى في أسوأ حالات كمونه واستكانته، وكفر بكل ما عداه:
كفرتُ بعزمتي الصامدة
وقدسية الغضبة الحاقدة
وانّات قلبي تحت الخطوب وأحلامه الحية الصاعدة
وعمرِ شبابٍ نذرت به
لشعبي واهدافه الخالدة
وبالشهداء وأرواحهم
تراقبني من عل شاهده
إذا أنا أيدت حكم الطغاة وهادنتهم ساعة واحدة
كفرتُ بعهد الطغاة البغاة
وما زخرفوه وما زيفوه
وأكبرت نفسي عن أن أكون عبداً لطاغية ٍ توّجوه
وعن أن يراني شعبي الذي
يُعذب عوناً لمن عذّبوه
أأجثو على ركبي خاشعاً
لجثة طاغية حنّطوه
أألعقه خنجراً قاتلاً لشعبي وأُكثر فيه الوُلوه
أنا ابنٌ لشعبي أنا حقده الرهيب أنا شعره أنا فوه
أتعنو لطاغيةٍ جبهتي؟
فمن هو من أصله من أبوه!
وآمنت بالشعب حتى وقد
رآه الورى جثةً هامده
تداعى حواليه أعداؤه ليقتسموه على المائده
فهذا بشلو شهيد يعيث
وذاك يساوم في الفائده
وذا لليتامى يهز السياط
لتعبث بالجثث الراقده
وكم من وليد حذارِ الحِمام، رأى نفسه صافعاً والده
وآمنت بالشعب يوم جثا أمام الطغاة على ركبتيه
ويوم انبرى في ذهول الهوان، يرامي مكاسبه من يديه
ويوم مددنا شعاع الصباح له فانزوى، وحمى مقلتيه
وأحياناً يستعمل الاستحثاث العكسي عن طريق الرثاء كما في “مرثية شعب”, لكنه لا يلبث، كما سنرى من خلال القصيدة، أن يبشر بالشعب وبصحوته وحتمية انعتاقه:
ما كنت أحسب أني سوف أبكيه
وأن شِعري إلى الدنيا سينعيه
وأنني سوف أبقى بعد نكبته
حيا أمزق روحي في مراثيه
وأن من كنت أرجوهم لنجدته
يوم الكريهة كانوا من أعاديه
ألقى بأبطاله في شر مهلكة لأنهم حققوا أغلى أمانيه
قد عاش دهراً طويلا في دياجره
حتى امّحى كل نور في مآقيه
فصار لا الليل يؤذيه بظلمته
ولا الصباح إذا ما لاح يهديه
فإن سلمت فإني قد وهبت له
خلاصة العمر ماضيه وآتيه
وكنت أحرص لو أني أموت له
وحدي فداء ويبقى كل أهليه
لكنه أجل يأتي لموعده
ما كل من يتمناه ملاقيه
وليس لي بعده عمر وإن بقيت
أنفاس روحي تفديه وترثيه
فلست أسكن إلا في مقابره
ولست أقتات إلا من مآسيه
وما أنا فيه إلا زفرة بقيت
تهيم بين رفات من بواقيه
كنا جيوشا تلاقي الدهر رادعة
واليوم وحدي بلا درع ألاقيهِ
إذا وقفتُ جثا دهري بكلكله
فوقي وجرت بيافوخي دواهيهِ
وإن مشيتُ به ألقت غياهبُهُ
على طريقي شِباكاً من أفاعيهِ
تكتّلتْ قوة الدنيا بأجمعِها
في طعنةٍ مزقت قلبي ومافيه
وهكذا مثلما اضطلع الزبيري بإعادة ثقة الشعب بنفسه وبقدرته على الفعل، انطلقت في المقابل روائع البردوني مستحثة في الشعب وعيه الحقوقي وذلك من خلال قصائده التي يطالب فيها الإمام كمواطن من حقه أن يسأل:
لماذا ليَ الجوع والقصفُ لك
يناشدني الجوعُ أن أسأَلَكْ
لماذا؟ وفي قبضتيْكَ الكنوزُ
تَمُدُّ إلى لقمتي أَنْملَك
وتقتاتُ جوعي وتُدْعى النزيه
وهلْ أصبحَ اللصُّ يوماً مَلَكْ؟
لماذا تسُودُ على شقوتي؟
أجبْ عنْ سؤالي وإن أخجلَكْ
ولو لمْ تُجب فسكوتُ الجوا
بِ ضجيجٌ يردِّد: ما أنذلكْ!
لماذا تدوسُ حشايَ الجريحَ
وفيهِ الحنانُ الذي دلّلكْ
ودمعي، ودمعي سقاكَ الرحيقَ
أتذكُر: يا نذلُ: كمْ أثمَلكْ؟!
فما كاَن أجهلَني بالمصيرِ
وأنت لكَ الويلُ ما أجهلكْ!
غداً سوفَ تعرفُني منْ أنا
ويسلبُكَ النُّبْلَ منْ نَبَّلكْ
غداً لا تقل أين مني غدٌ
فلا لم تسمّر يداك الفلَكْ
ففي أضلعي، في دمي غضبةٌ
إذا عصفتْ أطفأتْ مشعلَكْ
غداً سوفَ تلعنُكَ الذكرياتُ ويلعنُ ماضيكَ مستقبلَكْ
وبالفعل صدقتْ يقينيّاتُ الزبيري، وبصيرة البردوني في مقدرة الشعب على استعادة روحه، وتجسّد ذلك صبيحة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م وظهيرة الرابع عشر من أكتوبر 1963م.
وهناك في الرئة الأخرى من الوطن حيث كانت قصائد محمد سعيد جرادة ولطفي جعفر أمان وعبده عثمان وآخرين رعوداً مجلجلة بصوت الفنان محمد مرشد ناجي تقض مضاجع الانجليز، هادرةً:
“أنا الشعب زلزلة عاتية..
ستطفئ نيرانهم غضبتي..
أنا الشعب قضاءُ الله في أرضي”.
اليمنيون والانعتاق الكبير
فور قيام النظام الجمهوري العام 1962م، بدأت آليات الأحرار في ترسيخ معاني الحياة الجديدة واجتثاث رواسب الحقب الإمامية، تتظافر في جهدٍ متناغمٍ لرعاية هذا التحول وحراسته من الأذى.
كانوا على اطلاع عميق بمكامن الوجع اليمني المعتّق عبر قرون، وكانوا، بالمقابل، على درايةٍ دقيقةٍ بعوامل نهضته ومفاتيح مجده.
“وكما كان للإمامة أشياع يحاربون من أجلها. فلا بد للجمهورية من تنظيم للجماهير ذات المصلحة المباشرة في قيام النظام الجمهوري، لتحمي هذا النظام الذي يحقق أهدافها في الحياة.. والتنظيم السياسي للجماهير، بالقيادة اليمنية الواعية، هو السياج الواحد لدوام الجمهورية وازدهارها، وبدون ذلك فإن الجمهورية في اليمن لن تعدو أن تكون كإمارة بني زياد أو بني نجاح، أو غيرهم ممن تعاقبوا على حكم اليمن من غير الأئمة. لقد انقضى زمن الإمارات والولايات والسلطنات، إذ لم تعد روح العصر الحديث تتقبل شيئا من ذلك، فليس أمامنا إلا مواجهة تبعات التطور في بلادنا، وامتلاك الأسباب الحديثة للوفاء بهذه التبعات”(12).
الرؤية كانت أوضح مما نتصور.. حيث يضيف محمد أحمد النعمان:
“وبالأخذ القوي بأساليب التفكير الحديثة في سياسة الدولة، وإعادة بنائها، وإتاحة الفرصة للشباب الواعي المستنير للقاء الدائم المنتظم لدراسة المشاكل العامة والبحث عن حلولها العلمية، بهذا وحده نقضي على الأزمات النفسية والفكرية لدى الشباب المستنير ذي القدرة على التفكير الحديث، والإسهام الفعال في تطوير أوضاع البلاد، ونقلها من حالة الجمود والرتابة إلى وضع متنور متفاعل مع التقدم الإنساني الذي تخلفنا عنه طويلاً”(13).
وهاهو البردوني يضطلع بمهمةٍ جديدة، هي جبر الوحدة الوطنية، وإزالة الشق الذي لحق بالمجتمع، محاولاً عبر قصائده لملمة أجزائه وتوحيد أنفاسه ورؤاه، نافخاً الروح في الأماكن والأرجاء، معنقداً إياها في نسق متآلف يدحرج ما لحق بالوحدة الوطنية من ندوب وتشوهات، مؤكداً لليمنيين واحدية الحلم، وواحديّة الهم، وواحدية الوجع، ومذكرا،ً أيضاً، باليمن الواحد شماله وجنوبه:
عرفته يمنياً في تلفته
خوف وعيناه تاريخ من الرمد
من خضرة القات في عينيه أسئلة
صفر تبوح كعود نصف متقد
رأيت نخل (المكلا) في ملامحه
شميت عنب (الحشا) في جيدة الغيد
من أين يا أبني؟ ولا يرنو وأسأله
أدنو قليلاً: صباح الخير يا ولدي
ضميته ملء صدري إنه وطني
يبقى اشتياقي وذوبي الآن يا كبدي
(يسعد صباحك) يا عمي أتعرفني؟
فيك اعتنقت أنا قبلت منك يدي
لاقت (بكيلا) (حاشداً) (عدنا)
ما كنت أحلم أن ألقى هنا بلدي
رأيت فيك بلادي كلها اجتمعت
كيف ألتقي التسعة المليون في جسد
***
عرفت من أنت يا عمي تلال (بنا)
(عيبان) أثقله غاب من البرد
(شمسان) تنسى الثريا فوق لحيته
فاها وينسى ضحى رجليه في الزبد
(بينون) عريان يمشي ما عليه سوى
قميصه المرمري البارد الأبدي
لقد انطلق الأحرار نحو صوغ معالم الحياة الجديدة بشيء من العمق والشمول، وذلك لإدراكهم أن الإمامة لم تكن مجرد نظام للحكم يسير دون ارتباط روحي بأتباعه وأنصاره، بل ارتبطت الإمامة بقداسة الأسرة الهاشمية، وحقها في احتكار السلطة.
ولذلك فإن “الجمهورية النقيضة للإمامة أشد ما تكون حاجة لزاد عاطفي لأنصارها يملأ أسماعهم وأبصارهم، أي أنه لا بد من نظرية سياسية ترتبط بها كل شئون الفكر والحياة في اليمن، لتحل محل النظرية القديمة التي رسمتها العقيدة الإمامية” هذه النظرية الجديدة تمثلت في ربط اليمني بكينونته، وبأسباب عزته وسعادته.
لذلك، وعلى نفس الدرب وإكمالاً لأدوار النعمان والزبيري والبردوني، جاءت قصائد عبدالله عبدالوهاب نعمان لتلهب الحماس الوطني في أوساط الجماهير المشرئبة نحو عهدٍ جديد، ومثّل “الفضول” مع الفنان أيوب طارش، ثنائياً مغِّرداً أفعم تفاصيل الحياة الجديدة بالحيوية والإقبال لصنع الواقع الجديد المرتبط بحفيف الحقول ونفج السبول وأشواق الروح المنسابة من شُبّابة المرعى و”دخداخ النسيم”.
هذا الربط الواعي بين معاني الحب والحقل تجسّد أيضاً عبر ثنائي مطهر الإرياني وعلي الآنسي وبلغ ذروة سحره في معزوفة “الحب والبن” التي تعيد الإنسان اليمني وجدانياً إلى الزراعة باعتبارها أساس عزته وجذر حضارته.
كذلك انطلق مطهر بن علي الإرياني مغرّداً للعامل في مصنعه، وللجندي المرابط فوق الجبل.
فوق الجبلْ حيث وكر النسرْ، فوق الجبل
واقف بطلْ محتزب للنصرْ، واقف بطل
يزرع قُبَل في صميم الصخر، يزرع قبل
يحرس أملْ شعب فوق القمة العالية
لم يتوقف الدكتور مطهر الإرياني عند هذه المهمة بل توجه صوب الذاكرة المدفونة للشعب اليمني، وتخصص في مجال الآثار مفتشاً عن أسرار عزة هذا الشعب ومنقباً عن ظروف تمكِّنه وانبلاجه، هذا لأن الثوار أدركوا منذ وقت مبكر أن “تاريخ اليمن، واقتصاديات اليمن وآداب اليمن، وثقافة اليمن.. كل ذلك لا يزال معميات أمام الغالبية منا وهي أولى بجهدنا جميعا نتلمس من خلالها شخصيتنا ووجودنا، ونستبين من دراستها مشاكلنا وطرق الحل السليم لها”(14).
على الجانب النظري لهذا المجهود الآثاري تكرست جهود الثنائي محمد بن على الأكوع الحوالي، رحمه الله، وشقيقه إسماعيل بن علي الأكوع، حفظه الله، وتفرّغ كلاهما في تدوين التاريخ اليمني وتبسيطه للقارئ وتنقيته مما لحقه من الأوساخ والشوائب.
الدكتور القدير عبدالعزيز المقالح قام، بدوره، بمهمة حفظ وجدان الثورة من الضياع، وراح ينقل للأجيال الجديدة صدى الصدق الكامن في رجالاتها، وانبرى الدكتور المقالح أباً للأجيال، ورائداً لحركة البحث العلمي في يمن الثورة، ومثّل بسلوكه ويراعه النموذج الأروع الذي كانت عليه دماثة الحركة الوطنية وجلالها ومقدار الحب الذي حملته.
أما على مستوى الشعر الشعبي فقد برز الشاعر الكبير صالح سحلول مُسْتَّلاً ملاحم عصماء تطاير صيتها في كل ريف وحضر، رسّخ من خلالها يقين الشعب بالثورة وبالعهد الجديد.
فيلسوف الثورة الأستاذ محمد أحمد نعمان كان المعادل الموضوعي لذلك الزخم العاطفي الهادر إبان الثورة، فراح بفكره الحكيم السباق ليضفي لمسات الواقعية على إيقاع الحياة الجديدة مؤكداً طابعها الحضاري في التفاعل مع الآخرين ونزعتها الإنسانية الرامية إلى جعل الشعب اليمني عاملاً مؤثراً في بناء البشرية ورقيها، ذلك أن الثورية، كما يرى المفكر النعمان، لا يصح أن تفهم على أنها مجرد حمل السلاح أو هز القلم لمناوأة العهد الإمامي. “وإنما الثورية الحقة هي الخروج على أساليب التفكير السياسي العتيقة التي احتبست كل طاقات شعب اليمن في مصارعة ذاتية أودت بسمعة هذا الشعب العريق، وجعلته واحدا من الشعوب المتخلفة البائسة المشردة”.
يواصل المفكر النعمان: “إن الثورية الحقّة، التي تعطي صاحبها حق الإمساك بزمام السلطة، هي الوعي الكامل لحقيقة أسباب تخلف الشعب، والإدراك البصير لسبل الرقي به وتحقيق الوحدة الشعورية بين أبنائه، والقضاء على أوجه البؤس والشقاء الذي يسيطر على حياته، واستعادة كرامته أمام نفسه، وأمام السلطة وأمام الآخرين خارج حدود بلده. ولن نبلغ شيئاً من ذلك إذا لم نكن مزودين بالثقافة الثورية، ننهلها من كل تجربة إنسانية، وإذا لم نعتمد الأسلوب العلمي أساسا لتفكيرنا وتصرفاتنا وذلك بدراسة مشاكلنا على الطبيعة دراسة مباشرة جادة معتمدة على اللقاء المباشر بجماهير شعبنا، واعتماد الإحصاء وسيلة، والتخطيط الشامل منهجا، باسطين داخل نفوسنا وعقولنا خريطة اليمن، كل اليمن نتنسم روائح أجوائها جميعا، ونحصي طاقاتها كلها، واحتياجاتها كلها، لنخرج بالخطة الشاملة التي تعيد لنا بناء اليمن الحديثة الموحدة المتطورة.
إن نظام الحكم الأمثل في اليمن هو النظام الذي يعرف أن مهمته الأساسية وسبب وجوده ليس غير إعادة تنسيق العلاقات بين المواطنين، على أساس عادل منصف، وإقامة الروابط بين المواطنين وأرضهم بطريقة تغمر نفوسهم بالاعتزاز والحب لها، وتُيَسّرُ لهم الرزق الهنيء العزيز… فلا يحتاجون للهجرة والاغتراب، يفرون بأنفسهم من عناء الفاقة وقسوة البؤس، أو ينجون بها من ظلم بعضهم لبعض، واختطاف بعضهم لقمة العيش من أفواه بعضهم الآخر”(15).
على مثل هذه الدرجة من الوعي والمسؤولية، كان الإيقاع الوجداني والفكري الذي تبلورت على أساسه أهداف الحركة الوطنية في طورها الناضج المكين.. فكان النضال، وكانت الثورة.
وعلى نشوة البعث الكبير، تفجرت طاقات الشعب، وازدحمت، وربما تزاحمت، في سياق اندفاعها نحو التحقق والكينونة والحضور..
على ذات الدرب انبرى عثمان أبو ماهر يرسخ علاقة الانسان بالأرض، واقتصادياً قام الحاج هائل سعيد أنعم بوضع النواة الأولى للصناعة الوطنية.. وقس على ذلك كافة أعلام الثورة اليمنية الذين اختطوا دربها في كافة المجالات، فناً، وأدباً، وتاريخاً، وطباً وهندسة.
وهكذا؛ ومثلما جسّد عهد المشير عبدالله السلال نموذجاً في الصمود والتضحية، ترسخ في عهد القاضي عبدالرحمن الإرياني نموذج نادر في عدم التشبث بالسلطة، بينما تفتقت في عهد الشهيد المقدم إبراهيم الحمدي فنون الإدارة التنموية الرائدة، وازدهرت تجارب العمل التعاوني، وتم وضع الكثير من الأسس في البنى التحتية للدولة الوليدة، وصولاً إلى عهد الرئيس علي عبدالله صالح، الذي تحققت في عهده الوحدة اليمنية بين شطري الوطن.
وقد شكلت الوحدة منعطفاً جديداً في حياة هذا الشعب ووضعته قبالة أجندة جديدة من التحديات خصوصاً فيما يتعلق بالحراك السياسي القائم على أساس التعددية العلنية وكذا الاستحقاقات التنموية المتبقية.. نقلةٌ كبرى في حياة اليمنيين في ظل أقل من ثلاثة عقود تكللت بقيام دولة الوحدة، ونشأ على هامش هذه التحولات جيل جديد لا علاقة له بمعركة الانعتاق الكبير في حين أخذ الأجل يقتات من جيل الثورة الأول، الأمر الذي أفسح الطريق أمام مخلفات السلالة الكهنوتية مستغلين اندفاعة هذا الشعب وغفلته البريئة عن مطامحهم وغاياتهم الدفينة.
نحن الآن، وبكل براءة اليمني وسماحة طبعه، نستبعد، بعد هذا السجل من الخطوات والتضحيات، أن يَعِنَّ للإمامة همسٌ، أو يرتفع لها شعار، غير أن الحقيقة لا تلبث أن تثبت لنا كم نحن طيبون.. فأصحاب المشروع الإمامي تقوم شرعيتهم المزعومة أصلاً على ادعائهم لِحق قديم عمره 1400 سنة منذ سقيفة بني ساعدة، أفلا يحنُّون إليه بعد 30 أو 40 عاماً في اليمن..
إن الدارس المتأمل لحقيقة المشروع الإمامي ليجد كم أنه من الضرورة أن يُنْقَدَ المشروع الإمامي ويُفَنّدَ بلا هوادة، ليس خوفاً من عودته من جديد، ولكن أيضاً من باب الوفاء المستحق، ثمَّ، وهو الأهم، أن التحدي الذي فرضته الوحدة اليمنية في حياة اليمنيين قد أغفلهم نسبياً عن ثقافة الثورة، لتتسرب ثقافة الإمامة من جديد إلى ضلوع الدولة، وهياكلها المختلفة، لنجد أنفسنا بين عشية وضحاها محكومين برِتْمِ الإمامة العقيم، حيث الدولة ريع “للمتفيّدين”. والقانون، وإن أصبح مكتوباً، إلا أنه حبر على ورق.. والتنمية وإن أصبحت، هدفاً معلناً، إلا أنها كمن يحرث في بحر..
ورغم كل ما شاب العقود الجمهورية إلا أننا كيمنيين منذ قيام دولة الثورة في ظل حكم يتداول عليه أفراد من بيننا، ويحكمون باسمنا، لانيابة عن الله، سبحانه، ثم إنها عهود ذات طابع حضاري حاول قادتها جاهداً أن يرفعوا اسم اليمن في كافة المنتديات والمحافل الدولية، وكذلك ذات طابع وطني تحققت في ظله وحدة البلاد وعادت إلى الوطن بعض أراضيه من دول الجوار، وهي كذلك، مبدئية، لا تزال تدفع ثمن مواقفه المبدئية الثابتة، إنسانيّة لا تلتمع سيوفها، ولا يرتجز “وشاحها” ولا ينطق “بورزانها”، ولا يخشاه خصومها، ثم إنه، ومن باب الإنصاف، نظام يتمتع بكل نقاط الضعف التي نحملها نحن كيمنيين سواءً من حيث العفو، أو من حيث الاطمئنان للأعداء والغفران لهم، وهو ما أوقع الجميع في حبائل مخلفات الإمامة من جديد لتشكل هذه المجازفة الإمامية مصلا ولقاحا يقوي مناعة الشعب ضد أية انتكاسة، لتصبح هذه آخر محاولات الإمامة وآخر نثرة لها في أرض اليمن
.