تتميز أعمال الروائية السعودية رجاء عالم، بلغتها القريبة من النصوص الصوفية، وهذا ما يتطلب من القارئ المزيد من الجهد للوصول إلى العمق الساكن خلف الكلمات. بدأت مسيرتها برواية "أربعة صفر" عام 1982، كما كتبت القصة والنصوص المسرحية وكان أولها "الرقص على سن الشوكة".
أصدرت عددا من الروايات من بينها "طريق الحرير" و"مسرى يا رقيب" و"طوق الحمام" التي أهلتها الحصول على الجائزة العالمية للرواية العربية مناصفة مع الروائي المغربي محمد الأشعري عام 2011 لتعيدها رواية "باهبل مكة" إلى هذه الجائزة، إذ وصلت روايتها هذه إلى قائمتها القصيرة في 2024.
الجائزة باب صوب العالم
مرة أخرى يلمع اسمك في الجائزة العالمية للرواية العربية، ما أولى الأفكار التي راودتك عند سماع ترشحك للقائمة القصيرة في دورة هذا العام؟
لا أعرف، الجائزة العالمية للرواية العربية هي حدث "حي"، حدث إحياء يقول إن هناك من يعنى بهذا الفن، وإن أصوات الروائيين تجد من يوصلها من قبل القائمين على هذه الجائزة. أحيانا، ومع الأوضاع في عالمنا العربي ودمار الكثير من رموزه، تشعر لكأنك كما يقول المكّيون "تغني في مالطة". هناك صمت مثل حلقة عزاء يكمن عميقا في الوعي العربي، والجائزة بمثابة باب ليس فقط للروائي وللقارئ العربي وإنما باب صوب العالم، تشعر بهذا الباب ينفتح لك ويستدعي "قبيلتك" الفنية، لا أحب مبدأ المنافسة لكن كتبي تحب التحاور مع كتابة الآخر ومع وعيه.
لماذا تستحضرين مجددا مكة، مسقط رأسك، في روايتك "باهبل مكة"، وكانت قد حضرت من قبل في "طوق الحمام"، وقبلها في كتابتك المسرحية؟
لكأنك تسألينني: لماذا ولدتِ في مكة؟ المدينة الأولى في حياة الإنسان هي البصمة الأولى أو المهد الذي تلقى الشعلة التي هي روحه، ومن تلك الأرض اغتذت الشعلة ومن نورها تتوهج. مكة لا تترك مجالا للموت، لأنها تظل تتقد في داخلي وتصوغ رؤيتي للعالم. هي أشبه بمرشح يرشح ما تلقاه، في كل مرة أنهيت فيها كتابا عن مكة أقول لقد فرغت، هذا كل ما لدي لأقوله عن هذا المحيط المقدس، لكن ومن حيث لا أدري تتحرك أصابعي بالكتابة، وأجد مكة تقول وتروي عني. في وسعك القول إنني ممسوسة بهذه البقعة من الوجود،فمكة هي التي تقول وتكتب عني كل أعمالي حتى الآن.
تناولت في "باهبل مكة" فكرة العبودية المبطنة، مثل العبودية باسم الحب وغير ذلك من أنواع العبودية، هل نعتبر ذلك دعوة للقراء لأن يبحثوا عن عبودية ما يعيدون النظر فيها؟
سؤالك ينبش جرحا بحجم العالم، هذه العبودية التي غالبا ما نختارها حيث لا يمكن لشيء أو لكائن أن يستعبدنا دون تواطؤ منا، هو حلم لم يخطر لي أن يكون كتابي "باهبل" مثل كشاف للعبودية المبطنة، سؤالك يدفعني إلى أن أنظر حولي وداخلي عن القيود التي نختارها ونستريح لفكرة إأنها مفروضة علينا، فكري معي، أهو فنجان قهوة صباحي هذا الذي يستعبدنا أم أنه الشروق على قمم الجبال أم هو كائن أو مكان نعشقه؟ هذا يدفعني إلى مناقشة ضعفي تجاه أشياء صغيرة في حياتي، فما بالك بالكبيرة. جميل هو هذا الضعف لأنه يلخص إنسانيتنا، ويحفز إبداعنا في الوقت نفسه. الماء ربما يحب الصخرة التي تظل تجبره على الانحراف، لكن لولا الانحراف لربما ما اكتشف الماء عوالم الخفاء والتيه.
معنى الحرية
في الوقت نفسه لا أعرف إن كنا نقدر معنى الحرية، التحرر من "التعلق" الذي يؤدي الى مصادرة الذات. يراودني الآن أن فعل التعلق يأتي من "علقة"، كفعل رِدَّةٍ لمرحلةِ "العلقة"، بمعنى إسقاط كل مظاهر التشكل الذاتي والذوبان في رحم ما، هذا الإسقاط الإرادي هو العبودية لشيء أو وجود خارجنا، هذا الإسقاط لشمسنا على الآخر.
كم من الأشياء نتعلق فيها وتعوقنا، فهل نقطع كل الحبال السريِّة مع الأشياء والكائنات ونتصل بما وراء، وما هو هذا الما وراء إن لم يكن مرموزا كامنا كاملا في المتجسد؟ سؤال هو غاية وجودي الآن حين اخترت هذه العزلة التي أعيشها، لكن ترافقني الكتابة، فهل هي أيضا من العوالق؟ ربما.
ما خصوصية كتابتك المسرحية، ولماذا لم تكرسي نفسك للمسرح أو الرواية أو القصة القصيرة بل قررت الخوض في كل هذه المجالات الإبداعية؟
الكتابة هي التي تختار وتستدرجني للتجريب، التجريب متعة لا تضاهيها متعة، وربما ودائما نحن المسرح وفي المسرح، لا أعرف إن كان في وسعي تجنيس ما أكتبه كرواية، الكلمة عموما هي مسرح بلا جدران وبجمهور في حجم العالم.
تجارب مشتركة
لديك أيضا تجربة مميزة مع شقيقتك الفنانة شادية عالم التي أنتجت معها أكثر من عمل...
شادية هي مصدر إلهام وحافز على الوجود، إنها تعيش الفن حقا وفي ذلك أقتديها وتثري روحي، أعمال شادية هي أعمالها فأنا لم أشاركها إنتاج فنها الذي ينهل من وحيها المطلق سواء الأعمال المفاهمية التركيبية أو اللوحات أو التصوير الفوتوغرافي، لكن وعلى طول مشوارها تشاركنا في بضعة أعمال مثل كتابها المنفذ بطريقة الحفر على الشاشة الحريرية، "جنيات لار"، قامت هي بخلق الجنيات واستوحيت من جنياتها نصوصا لنهري "لار" أقدم أنهار الجزيرة، النهر الأسطوري الذي أشعر به قد توارى عن سطح الأرض لكنه لا يزال يجري فينا. أيضا في كتابي "مسرى يا رقيب"، كتبت النص واستوحته شادية لتخلق رحلتها الصوفية بألوان شديدة الخصوصية وأقرب للتذهيب، مثل جسد الصحارى، مثل جسد السراب أو الماء المُضْمَر، في هذ الكتاب رحلنا معا، شادية وأنا، صوب وادي عبقر.
خضت أيضا تجارب مشتركة مع الفنان نجا المهداوي، وتعاونا مع المصورة الأميركية ويندي إيوالد، ما الذي يقف وراء جمعك بين الفن والأدب؟
تصوير الذات وتصوير الأحلام مع المصورة الأميركية ويندي أيولد، كان مشروعا مجنونا هو أشبه ما يكون بخطوة في مشواري عن البحث عن الذات، أيضا مع الفنان التونسي نجا المهداوي كان اقتحاما لعوالم تمسنا وينبشها حضور الآخر المبدع.
ماذا عن التجارب الراهنة؟
حاليا في وسعي القول إنني أرحل داخلي في وحدة تشاركني فيها الطبيعة والصمت والإنصات العميق، وفي ذلك الإنصات لا تزال تترجع أصداء من مروا بي، بلا استثناء حيث في وسعي الادعاء بأن كل من مروا بي يمكن وصفهم بالمبدعين ابتداء من خالة هدباء العاملة البسيطة في المركز الذي عملت به يوما، هذه البدوية التي تنطق بفطرة وحكمة مذهلة مبطنة بفكاهة، وانتهاء بالأطفال الذين عشت إبداعهم الذي لا يحد، مرورا بكل المبدعين سواء في كتاب أو عمل فني، في وسعك القول إنني أتعاون وأرواح من تركوا وراءهم عبقا مكتوبا أو منقوشا أو محفورا.
بين اللغات
أصدرت باللغة الإنكليزية روايتين، ما الفرق بين كتابتك بلغتك الأم والكتابة بلغة تتقنينها؟
باللغة العربية لست أنا التي تكتب وإنما هي أصوات أتلقاها وتكتب عني، فمثلا كتابي الأخير، "باهبل مكة"، حين قرأته شادية بعد نشره ذهلت وقالت لي "من أين تلقيت هذه العوالم واللغة المكية التي لم نحيها في طفولتنا ولا مراهقتنا؟".
حقا هذه اللغة العامية والعوالم لا أعرف من أملاها علي، كما كل كتبي، حين أنهي كتابا لا احتمل قراءته لكأنه طافح بما لا أُطيقه، وبعد فترة حين أقرأ مقاطع من تلك الكتب لا أعرف من كتبها، اللغة العربية هي الماء الذي يسري فيَّ وبي.
بالنسبة إلى اللغة الإنكليزية لحقتني فيها هذه الأصوات التي تغني، لكنها أكثر جرأة والتصاقا بالحياة، ما يكسر اللحن في كتابتي العربية يمكن تمريره دون كسر في اللغة الإنكليزية، باختصار لا "رقيب داخلي" على لغتي الإنكليزية، لا قيود ولا حمولات من الماضي، أشعر بي جديدة كمن تولد للحظة حين أكتب باللغة الإنكليزية، لكن الجن الحقيقي يكمن في اللغة العربية.
بين الأمكنة
عشت بين السعودية وباريس، كيف أثرى هذا التنقل عالمك الروائي؟
هو أكثر من امتداد بين مدينتين، وليس فقط باريس بمعنى باريس المدينة، وإنما التيارات التي تعرضنا لها المدينة، الأجواء، التجول على غير هدى بين الأحياء والثقافات ولحظات الصمت الطويلة التي ترجعك للدواخل، ربما أنا لا أتنقل الآن بين مرتفعات اسكتلندا وباريس ومكة الخلايا التي لجسدي وإنما أنا داخل الكون الذي هو أنا، كون بلا حد وأتشوق لاكتشاف تفاصيله، والتي لا أعرف أين ستقودني، لكنني أشبه بحبلى بوجود ليس في وسعي حصره ولا تفسيره، لكنه ماض يتشكل فيّ.
هل من رسالة تودّين إيصالها من خلال كتابتك؟
لا رسالة ربما، فقط ما أكتبه هو وصل، كمن يخاطب وديانا سحيقة وجبالا لا يعرف آخرها، كمن يخاطب سماوات ومجرات لا نعرف غايتها لكنها ترجع أصداءنا، الكتابة هي نغمة أو نظرة نطلقها لكي تتعرفنا الموجودات، كتابتي مشاركة في سمفونية، هي نحن جميعا، هي الأكوان فوق الأكوان ووراءها، لكم هو جميل ومُحَرِّر أن نغني.
قلت سابقا إن "باهبل مكة" كانت شبه جاهزة من 2012؟ فماذا بعدها؟
قبل "باهبل" وبعد "باهبل" الحياة، لا نعرف ما ستقوله في اللحظة المقبلة لكنني أقيم منصتة، أتلصص وأخوض، أكاشف وأختزل وأُضمر.
المصدر: "المجلة"