- الصفة الغنائية الملازمة للسماع الصوفي على حساب الإيقاع جعلته منذ قرون يبقى فناً إنشادياً لم يخرج من حدود الصوت (وسائل التواصل الاجتماعي).
ينتمي فن السماع الصوفي إلى ما يطلق عليه داخل الأدبيات الفنية "الموسيقى التراثية"، ذلك أن هذا اللون الفني الذي يعتمد على الغناء والإنشاد أكثر من الإيقاع الموسيقي، وعلى رغم سبقه التاريخي مقارنة بنماذج فنية أخرى، إلا أنه لم يحظ بما يستحقه من الاهتمام من قبل أهل الفن، لا لأنه لا يتوفر على خصائص فنية ومؤهلات جمالية تجعله ينتشر بقوة داخل البلاد العربية، بل لعدم قدرة أهله على تجديده والدفع به صوب قاطرة التحديث انطلاقاً من عنصر الآلة.
المعاصرة ومباهجها.
وإذا كان فن "الملحون"، باعتباره فناً مغربياً تراثياً، نال من الحظوة الرمزية ما جعله اليوم ذائع الصيت في العالم ككل، فإن موسيقى السماع أو فن المديح لم يلق الإقبال الجماهيري الذي شهده غناء "الملحون" إلى جانب أنماط غنائية أخرى، مع العلم أن ثمة روابط جمالية على مستوى النص تجمع بين "الملحون" و"السماع" من خلال الأفق الفكري الذي تنطوي عليه بعض قصائدهما، والمتمثل في مدح الرسول والتغني بالعشق وغيرها من المواضيع ذات الارتباط بالبيئة العربية القديمة.
وهذا الانتساب إلى البيئة التاريخية القديمة جعله يصنف ضمن الموسيقى التراثية التي تستند في المقام الأول على أناشيد دينية وقصائد ترتبط ارتباطاً كبيراً بمدح الرسول.
ونظراً إلى النصوص المذهلة التي تغنى بها شعراء الصوفية فإن معظم نصوص أهل السماع ذات علاقة بهذه الجماعات الروحية التي سمي هذا اللون على اسمها في بعض النصوص الأكاديمية، وهو فن السماع الصوفي، ولعب التصوف دوراً كبيراً في توجيه هذا الفن إذ لم يجعله غناء عقائدياً دينياً بعدما أصبح السماع تجربة وجودية وروحية تستلهم معانيها من الخصائص النظرية والفنية والجمالية لمنظومة الفن الإسلامي، لا سيما وأن ظهور هذا الفن قد ارتبط ارتباطاً شديداً ببدايات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف حتى أضحى هذا اليوم علامة مميزة يتم فيها الاستماع إلى موسيقى السماع والأذكار والأمداح والأوراد التي تسهم ضمنياً في الحفاظ على الهوية الإسلامية.
يقول الكاتب عدنان الذهبي، "ألفت بعض هذه الأوراد بلغة هي مزيج من الفصحى والعامية، وألفت أخرى بإحدى اللهجات الأمازيغية إمعاناً في استنهاض القوم بلسانهم، مثل كتاب ’بحر الدموع‘ للشيخ محمد بن علي الهوزالي ومنظومة الأصناكي وغيرهما".
دلالات روحية
ويصف الباحثون المتخصصون في الموسيقى كون السماع الصوفي "فناً أصيلاً يقوم على ترتيل الأشعار الدينية والصوفية، قصائد كانت أم توشيحات أم أزجال أم براول، وفق الطبوع الأندلسية المغربية وأساليبها في التوقيع والغناء، واعتماداً أساساً على الأصوات والحناجر بغية تحقيق غايات روحية تبلورت بشكل رئيس مع سنن الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف، وانتعاش الطرق والزوايا الصوفية".
إن هذه الصفة الغنائية الملازمة له على حساب الإيقاع جعلته منذ قرون يبقى فناً إنشادياً لم يخرج من حدود الصوت صوب حدود الموسيقى التجريبية حتى يعتلي عرش التجديد، والحقيقة أن الركود الذي عرفه السماع هو ما جعل كثيراً من المستشرقين منذ بدايات القرن الـ 20 ينتقدون الأغنية العربية في كونها أغنية إنشادية لا تعرف الإيقاع ولا التجديد.
يقول المؤرخ الفرنسي فولني في أحد كتبه بعد زيارته مصر وسوريا، "موسيقاهم غنائية كلها فهم لا يعرفون ولا يقدرون العزف على الآلات الموسيقية، وهم محقون في هذا لأن آلاتهم إذا ما استثنينا منها آلة الناي كريهة سقيمة، وهم لا يعرفون أيضاً المصاحبة الموسيقية فموسيقاهم أحادية السطر اللحني، ويصاحبون الغناء بنغمة مستمرة على آلة أحادية الوتر (الربابة)، وهم يحبون الغناء بالصوت الطبيعي الظاهر جواباً، وتلزم لمثل هذا الغناء صدور واسعة عميقة النفس كصدورهم ليتمكنوا من تحمل عناء غناء ربع ساعة من الأداء".
وقد ظل السماع عند المتصوفة عبارة عن سفر وجودي في مجاهل الذات، إذ تغلب عليه الأبعاد التربوية والروحية في تهذيب ذوق الكائن إلى أن أصبح بعد قرون من ظهوره طقساً موسيقياً تختلف دلالاته ورمزيته من فرقة إلى أخرى، مما جعل كثيراً من المتصوفة ينهون إلى استعماله خارج مداراته الروحية لإصلاح القلوب وتنظيم الأمزجة والتقرب من الله، وذلك من طريق تشريع فعل هذا اللون الفني وأصوله وما ينبغي أن يكون عليه إلى جانب طهارة المرء ونظافة ثوبه وطيب رائحته والمكان الذي ينبغي فيه السماع، وغيرها من العناصر التي لا يتحقق فن السماع الصوفي حين الإخلال ببعضها.
غير أن مجالس السماع الصوفي لم تبق على حالها الأول، فقد تطورت بعض الشيء بالنظر إلى شكلها الأول الذي ظهرت عليه، بحيث تم إدخال بعض عناصر الآلات الإيقاعية بعيداً من الطبول والدفوف التي سيطرت طويلاً على مجالس السماع.
ويرى الباحث عبدالعزيز بن عبدالجليل أن "استخدام الآلات الموسيقية ظاهرة طارئة على موسيقى المديح والسماع في المغرب، والغالب أن هذه الظاهرة تسربت إليه من أوساط الطوائف الدينية، إذ تجد الآلات بأنواعها موقعاً رحباً وعلى درجات متفاوتة، فقد كان للتواصل الذي تحقق بين الطوائف وبين أوساط المسمعين في بعض المناسبات والمواسم دور في تقوية هذه الظاهرة التي كانت في البدء موضع انتقاد ولا سيما من قبل الفقهاء المتشددين، ويبدو ذلك في ارتفاع أصوات معارضة من قبيل إنكار المؤرخ الزياني في ’الترجمانة الكبرى‘ لاجتماع فقراء الصوفية بضريح المولى إدريس بفاس على استعمال العود والبندير والطر والبوق والمزامير في أذكارهم".
الحاجة إلى التجديد
والحقيقة أن موسيقى السماع لن تتطور إذا ما بقيت بعيدة الهاجس الموسيقي، وعزم بعض الفنانين في كل من مصر والمغرب وتركيا على إدخال عنصر الآلة المعاصرة، وذلك في سبيل اجتراح تجربة موسيقية رائدة تتجاوز في شكلها الفني الأفق الجمالي الضيق الذي انطلقت منه، إذ إن الآلة عماد الأغنية ومن دونها يبقى الأداء تقليدياً، إذ لم تستطع المهرجانات الكثيرة لفن السماع أن تعمل على تطوير هذا اللون الفني بما يخدم الأذن المعاصرة، فداخل بعض بلدان المغرب العربي نجد فرق السماع الصوفي لا تزال تنشد بالطريقة التقليدية نفسها التي بزغت عند المتصوفة، إذ لم تستفد بعض الفرق الغنائية من التجربة الموسيقية الجديدة التي اكتسحت جغرافية العالم العربي منذ بدايات الألفية الجديدة، فكل ما تفعله أنها تمارس هذا الفن بطريقة الأجداد، وهذا الأمر سيسهم يوماً في اندثارها، فالتجديد يعطي للسماع الصوفي حياة أخرى يحياها قريباً من الآلة الموسيقية وفتنتها الجمالية.
ويقول رزقي بن عومر إن أصل السماع عند الغزالي "هو أن حاسة الشم تستلذ بالروائح الجميلة، وحاسة البصر تستلذ إلى النظرة، فإن استلذاذ السماع بالأصوات الجميلة لأن السماع هو استماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى، محرك للقلب وليس في جملته إلا التذاذ حاسة السمع والقلب، فهو كالتذاذ حاسة البصر بالنظر إلى خضرة يتلذذ بها القلب".
ويكشف الغزالي عن دلالة السماع بالنسبة إلى لإنسان فيذهب إلى أن "للسماع تأثيراً غريباً في الإنسان، فإن لم يتأثر بما يسمع فهو ناقص العقل وبعيد من الشفافية والروحانية، ويصبح مثل الجمادات التي لا تتأثر بالسماع".
إن الوعي بدور الآلة والتلحين عاملان مهمان في تقدم السماع، إذ لولا تحرر بعض المتصوفة من جمود التقليد عبر إدخال بعض الآلات التقليدية على تآليف فن السماع، لكان هذا الفن غاب من دون وعي عن مسامعنا وأذهاننا، فالزمن لا يحفظ إلا الأنماط الفنية التي تستطيع الأجيال اللاحقة تجديدها وجعلها تدخل في سيرورة الحداثة والتحديث، إما من طريق الموسيقى أو الكليب.
كما أن غياب عملية التأريخ الفني الذي يحفظ هذه الممارسة الفنية ويجعلها باقية في وجدان الناس ومسامعهم يسهم في تغريب هذا الفن كغيره من الألوان التراثية الأخرى، ولا بد من حرص المؤسسات والمعاهد والجامعات على دعم الدراسات العلمية للغوص داخل عملية التفكير في السماع، بوصفه غناء له صبغة عربية إسلامية تميزه عن باقي القوالب الغنائية والأنماط الموسيقية المستوردة من الغرب، وإلا فإن النسيان قد يطال كنوزه كافة وخصوصاً في الآونة الحالية، إذ أضحى فيها الزمن المعاصر قابلاً للتلاشي والذوبان في زحمة اليومي الذي يبجل غناء الترفيه وموسيقى الاستهلاك.
- "اندبندت عربية" - أشرف الحساني