“حرثا”: دُرَّة حُوران التي يكادُ زيتُها يُضيىء…!
السبت 17 ديسمبر 2022 الساعة 16:43
المنارة نت/ ثقافات

نُسمّيها “حرتا” بالتاء.. وفي الوثائق يكتبونها بالثاء، وما بين الحرفين تتربَّع في وجداننا تلك القرية الوادعة وهي تشهد طفولتنا بكلّ تفاصيلها..!

هي بلا شك “دُرَّة حوران” التي تنتصب على أحد أضلاع المُربع الجُغرافي الذَهبي الذي يجمع معاً شمال الأردن مع جنوب سوريا وجنوب لبنان وشمال فلسطين، فإذا تجاوز المرءُ تلك الهضبة الساحرة بسهولها الشاسعة ميمّماً نحو الشمال فلا بدّ أن يطلّ على وادي اليرموك ويرى النهر الأسطوري وهو يتلوّى من بعيد غير آبه بجغرافيا سايكس – بيكو التي قَطَّعَتْ المنطقة إلى أشلاء، وإنْ أصاخ السمع جيداً وصلته قرقعة السيوف وآهات الجرحى وصرخات المحاربين في تلك المعركة الفاصلة في التاريخ الإسلامي حيث غادرت روما بلاد الشام إلى غير رجعة..!

في الربيع كان الأهالي ينتشرون في البساتين والجبال باحثين عن الشومر والخرفيش والعلت والمرار والزعتر، فيما تنتصب أشجار الزيتون “الرومي” دائمة الخضرة في كلّ الحقول وتحيط بالقرية من كل جانب، فإذا جاء موسم القطاف هبَّ الجميع للمساعدة، وحين “العصر” في تلك المعصرة القديمة التي تنتشر رائحة “الجفت” منها ينتظر الفلاّحون رؤية خيط الزيت الذهبي وهو يهبط مالئاً التنكات المعدنية، وناشراً البهجة في النفوس، وما يزال الناس يتقاطرون على هذه القرية من جهات عديدة من المملكة لشراء هذا الزيت الفاخر، الذي يعرف اليوم باسم “زيت الكفارات” حيث يتميّز بطعمه اللذيذ، ونقاوته الشديدة، وخصوصيّة تُربته.
لا بل إنّ القرية قد عُرفت قديماً باسم “آبل الزيت” فعلى مشارفها من جهة الشرق تقع المدينة الأثرية الكبيرة “أبيلا” وهي من مدن الحلف الروماني “الديكابوليس” وما تزال أنقاضها قائمة إلى اليوم لتشهد على حضارة عريقة كانت تتمركزُ في هذه القرية التي أخذت اسمها الآرامي “حرثا” من معنى المعسكر كما تشير بعض الدراسات، إذ كانت مركزاً حضرياً مُهماً فوجود مسرح كبير، وعدة كنائس، وبقايا شارع للأعمدة ومدافن وكهوف منحوتة في الصخر تشير إلى أنّ هذه المنطقة الجغرافية في شمال الأردن كانت شاهدة على حضارات عديدة عبر التاريخ ومنها الهيلينية والبيزنطية والإسلامية وغيرها.

كُنَّا صِغاراً نخطو في الشوارع الطينية التي تغمر أقدامنا الغضَّة في الشتاء، وكانت القرية بلا كهرباء حتى منتصف السبعينات تقريباً، ومع ذلك كان بعض الأهالي يملكون تلفازاً يشتغل على البطاريات، والسعيد من استطاع أن يجد له مكاناً قريباً من تلك الشاشة الفضيّة العجيبة التي كانت تبثّ الأغاني وأفلام الكرتون والأخبار، أما نحن الأطفال حينها فقد كنا نتشعبط على الشبابيك ونُطل من بعيد، فنسترق النظر إلى “سميرة توفيق” وهي تغني بأجمل الألحان، وتتبادل آهات العشق مع محمود سعيد في مسلسل “فارس ونجود”..!

أمّا المدرسة الابتدائية التي درستُ فيها فقد تميزتْ بحجارتها البازلتية وبنائها المعماري الفريد، ودائما أتذكر تلك اللافتة الحجرية المبنية في أعلاها وهي تشير إلى أنّها بُنيت في عهد الملك عبدالله الأول عام 1921 ، لهذا ربما تكون هذه المدرسة من أوائل المدارس في المنطقة والأردن عموماً، وللأسف تمّ هدم هذا المعلم المُهم وتحويله إلى بناء حديث بلا روح..!

كان بيتنا في الحارة الشرقية، وبيت أخوالي العمرية في الحارة الغربية، والحارتان هما ما كان يشكل القرية قبل أن تتوسع، وغالباً ما كنت أمضي هناك مع أمي أو مع رفاقي الصغار ونصل إلى حافة القرية من الغرب، وتدهشنا بقايا المضافة الحجرية للشيخ قويدر عبيدات التي بنيت في العام 1915، (تمّ ترميمها مؤخرا) وهي التي شهدت زيارات عديدة للملك عبدالله الأول، ولبعض المجاهدين السوريين مثل سلطان باشا الأطرش ولقيادات وطنية أردنية في تلك المرحلة المبكرة الحافلة بالتغيّرات..!

فإذا صعدت شجرة “الزنزلخت” التي في حوش بيتنا ونظرت إلى الشمال رأيت “جبل الشيخ” ينتصبُ شامخاً بثلوجه صيفاً وشتاءً، فيما هضبة الجولان وقرى سوريا تظهر من بعيد، وكان أبي قد افتتح في بداية الأربعينيات أوّل بقالة “دكانة” في القرية، وكان يذهب أحياناً إلى درعا بالقطار الذي يمر من محطة الشريعة “نهر اليرموك” ليشتري الدِبْس والملابس والصابون والحلويات وبعص ما يحتاجه الأهالي.نهر اليرموك 
على مشارف الستين تبدو لي “حرثا” بهيّة في كلّ تقلباتها وما طرأ عليها من جديد، وما زلت ذلك الطفل الغض الذي شدّته رائحة الزيت المغموس بالزعتر، وخبز الطابون الخارج للتو من الفرن الطيني، وصوت خاله الشجي، وهو يؤذّن لصلاة الفجر فيوقظ كلّ الحنين..!

- يحيي القيسي - روائي وباحث أردني يعيش في بريطانيا

متعلقات