- الغابري.. علامة بارزة في مسار الفن اليمني ويمتلك مشروع ذي طابع تشكيلي محض خارج السياقات السابقة.
بقلم: آمنة النصيري
لم يطلق عليه اليمنيون لقب ( ذاكرة اليمن البصرية) من قبيل المجاملة، فهو بحق وعلى مدى أربعين عاما دون بالصور الفوتوغرافية تاريخا مكتملا للحياة السياسية والثقافية والاجتماعية وقد وثق أهم الأحداث، ورصد الوجوه وتبدلات الزمن، واستكشف الطبيعة وقدم عروضا بانورامية للتنوع الجغرافي وثراء البيئة اليمنية، وتناول كل أشكال الفنون والتراث اليمني المتنوع، بالإضافة إلى اشتغاله على انجاز عروض للصورة الضوئية ذات الرؤية الإبداعية الخالصة التي قدمته كفنان يمتلك مشروع ذي طابع تشكيلي محض خارج السياقات السابقة، إنه الفنان الكبير (عبدالرحمن الغابري).
من المهم الإشارة إلى أن ثمة معطيات ساهمت في تكوين هوية الفنان وتفرد أسلوبه لعل أهمها تعدد ممارساته الإبداعية فهو إلى جانب احتراف التصوير الضوئي موسيقي يعزف على أكثر من آلة وملم بالنوتة وبتاريخ الموسيقى إلى جانب مشاركته الغناء سنوات طويلة في فريق الإنشاد التابع لوزارة الثقافة، والعمل في المجال الإعلامي، في الوقت ذاته يتوفر الفنان على محصلة معرفية كبيرة ذات طابع موسوعي كما أنه شغوف بمتابعة كل مستجدات الفنون وشديد الارتباط بالمناشط الثقافية المحلية وبالمثقفين اليمنيين على اختلاف أجيالهم، كما لايمكن إغفال أسفاره ورحلاته الكثيرة في توسيع دوائر خبراته ومعارفه، كل ذلك بلور في النتيجة تجربة فنية متعددة الوجوه، شكلت علامة بارزة في مسار الفن اليمني.
في مجمل تصاويره يحرص الفنان ( الغابري ) على العمل بحرفية عالية لايتنازل عن المقومات الأساسية للقطة المتقنة بدءا من انتقاء المشهد واختيار الإضاءة وتوزيع الظل والضوء بحسب مقتضيات الشكل واعتماد التناسب المطلوب وطبيعة العمق الفراغي وتحديد التكوين واختيار فكرة تلم تفاصيل الصورة، وهي قيم تصويرية يمكن تتبعها في كل نتاجه حتى في عادي صور المناسبات والوقائع العامة والرسمية.
على أن اللافت في كم هائل من الصور هو انشغال المصور بالإنساني، فهو يلاحق كل مشهد يمكن أن يؤطر به حالة إنسانية ويثبتها في الزمن، على سبيل المثال الصورة التي لاقت شهرة كبيرة لرجل عجوز يحمل على ظهره زوجته المعاقة ويتجول بها لايبغي مساعدة أو يبحث عن تعاطف، إنما يحمل قدره وشريكة حياته بوجه باسم يخلو من التذمر، ومثلها صورة الفتاة التي تبيع الخبز وقد جلست تتأمل في حزن صامت خبزها الذي لم يشتريه أحد، أو صورة الصغير العامل الذي يشتغل في شئ ما بينما ينظر بلهفة طفولية إلى صغار يلعبون، أو النساء العابرات في الطريق متشحات بالسواد يوارين وجوههن عن آلة التصوير وطفلة صغيرة تنسل من وسطهن تنظر إلى العدسة بوجه باسم لم تخذله بعد سطوة المجتمع، إننا أمام عدد يصعب حصره من حكايا البشر، سردية بصرية مدهشة تنم عن إدراك واضح بفاعلية الصورة وتأثيرها في تجسيد اللحظة الإنسانية والإمساك بها وإنتاج الأثر والمعنى من خلالها، وإن تكريس الحضور الإنساني بهذه الكثافة وبلغة دراماتيكية عالية لهو موقف اجتماعي وثقافي.
بيد أن التمحور حول الثيمة الإنسانية ليست فقط مايميز منجز الفنان ( عبدالرحمن الغابري ) ذلك أن نتاجه الغزير يحفل بتجارب تنتمي إلى الأنساق الفوتوغرافية الكونية التي انبثقت عن اتجاهات الحداثة ومابعدها وصارت تصنف ضمن العروض التشكيلية مثلها مثل اللوحة المرسومة يدويا، كما أشرنا في السطور الأولى، فالفنان المثقف والمواكب للاشتغالات الفوتوغرافية المعاصرة يدرك بأن الصورة الفوتوغرافية باتت تمثل (رسم جميل ) ولذلك قدم في معارضه أعمالا تندرج ضمن مايطلق عليه الصورة الفوتوغرافية التجريدية، في هذه النماذج قدم بمهارة لقطات وظف فيها الملامس الطبيعية للصخور والجدران وأوراق النباتات وسطوح المياة الراكدة وإيقاعات الحركة على الرمال، وجذوع الأشجار، أهتم في التقاطاته للمشاهد على التنوع اللوني وتدرجات الألوان السحرية التي للأشكال في الطبيعة وعلى الخطوط والتعرجات والنتوءات على نحو تشكلت معه صورا شديدة التجريد والبلاغة والجمال، لم تكن استعراضا للحرفية العالية للمصور الكبير بقدر ماكانت تجليات عينه المبدعة، فضلا عن ذلك فإن هذه الصور الملتبسة الباذخة الجمال تؤكد إطلاع المصور على المحامل الفنية الفوتوغرافية العالمية وثقافته النظرية العميقة عن تداخل القيم الفنية بين التصوير الضوئي وبقية الفنون التشكيلية.
وفي عروض أخرى (للغابري) تمثلت صوره اتجاها ليس متداولا لدى مجايليه من المصورين محليا، وهو الاتجاه المجازي الرمزي، والذي يقوم على بناء الصورة أو انتقاءها عبر اعتماد تفاصيل موحية ودالة ذات إشارات رمزية تحيل الصورة إلى لوحة فنية – فلسفية محملة برؤية قابلة للتأويل وتعدد القراءات وهو مايلوح في مجاميع لاندري عددها من تصويره منها على سبيل المثال صورة شاب يدفع بصخرة ضخمة على جبل، وتحيل الصورة إلى سيزيف الذي عوقب بأن يحمل صخرة إلى قمة الجبل ثم يعيد الكرة، كما تحتمل معان أوسع تتعلق بأحلام البشر وبالصراع وبفحوى المقاومة حين تقسو الحياة.
أخيرا لازلت أذكر يوما ما نشر المصور الفنان ( عبدالرحمن الغابري ) على صفحته في الفيس بوك مشهد لبائعات الملوج ( الخبز ) يقفن وسط المارة، فترك المتابعين عشرات التعليقات جميعها كانت تتساءل : ماإذا كانت تلك صورة فوتوغرافية، أم لوحة زيتية ؟؟؟ وأعتقد أن مصدر الالتباس ناتج عن أن الفنان الكبير يتعامل مع آلة الكاميرا كما لو كانت فرشاة فنان تشكيلي.