لوحة «الوداع الأخير».. قضية ورؤية وموقفاً
الاربعاء 25 ديسمبر 2019 الساعة 16:30
خاص / المنارة نت
بقلم: د. قائد غيلان

الفنان المبدع يخلق موضوعاته، يصنع اللحظة، إنه مثل الشاعر يكتب قصيدته بالألوان والظلال والخطوط، وبعد ذلك يضع لها عنواناً ليكتمل النص البصري شكلاً وموضوعا.

 وهو عندما يصنع الموقف واللوحة فذلك يعني أنه يمتلك قضية ورؤية وموقفا، ويبحث عن شكل فني قادر على احتواء كل ذلك والتعبير عنه وفق أسرار اللعبة الفنية وطرقها غير المباشرة.

لوحة "الوداع الأخير" للفنان ردفان المحمدي (ألوان زيتية كانفاس على مقاس 75×65) لوحة جميلة يمكن تصنيفها ضمن الفن الرومانسي؛ فتصوير مواقف الوداع مهمة رومانسية بامتياز.

 رغم حرص الفنان المحمدي على وضع نفسه في خانة الفنانين الواقعيين، فهناك تصادم بين الواقعية والرومانسية، من حيث أن الرومانسية تهرب من الواقع الى الطبيعة والخيال، بينما تعد الواقعية الهروب إلى الخيال نقيصة في حق الفن الرومانسي مادام يتخلى عن مسؤوليته الاجتماعية ويهرب إلى عذاباته الخاصة وخيالاته المجنّحة.

هذه اللوحة التي بين أيدينا لوحة رومانسية مادامت تسجل موقفاً رومانسياً " الوداع" ومادام الوداع قضية في ذهن الفنان "خياله" ولا تنبع من اللوحة، أي في اسم اللوحة ولا يظهر في اللوحة بطبيعة الحال.

 فالمرأة التي تقف في الخارج (ربما خارج حافلة) وتنظر بلهفة في اتجاه الأعلى "داخل الحافلة" قد تكون في موقف وداع أو موقف استقبال أو حديث في موضوع ما مع شخص ما، لكن الفنان أوقف الافتراضات باختياره لهذا العنوان، وهو انحياز  رومانسي، وتدخل منه في قراءة العمل وتأويله، أي إن العنوان يعكس موقفاً ويتبنى قراءة معينة للوحة، وهذا من حق الفنان، من حقه أن يتدخل في قراءة عمله، ومن حقه كذلك أن يضلِّل القارئ بتقديم إيحاءات معينة توجه القراءة وتفرض فهما معينا للعمل الفني.

تأتي بعد ذلك الألوان المنتقاة؛ ففي صدر اللوحة نجد تشكيلات ألوان الوجه والكف التي خلقت لونا خاصاً بين القمحي والذهبي أو "كأنها فضةٌ قد مسّها ذهبُ" حسب تعبير ذو الرمّة، ثم يأتي الأزرق بتدرجات مختلفة ليشكل الطبيعة من الخلف، يتخلل ذلك ذراع الفتاة باللون الأحمر  "القرمزي".

 واذا كان ليس هناك ألوان معينة تطبع أي مدرسة فإن حصر اللوحة بين هذه الألوان تعطينا موشراً رومانسيا، فالعبرة ليس باللون بقدر ما هي في الاعتماد عليه كلون أساسي وتوظيفه في الوجه الجميل والطبيعة، فليس أمامنا إلا فتاة جميلة وجبال، أي الجمال والطبيعة ووداع أخير، وهذه كلها مفردات رومانسية بامتياز.

 المرأة والطبيعة والوداع، وينهما حزن مخنوق وشوق مسافر، وهنالك " الوحدة" فرغم اتساع مجال اللوحة ليس هناك إلا امرأة واحدة ووجه وحيد، هي هنا وحيدة، حتى الشخص الموَدّع لا تظهره اللوحة، فالشعور بالوحدة شعور رومانسي، اذ يضيق العالم رغم اتساعه على احتواء شخص حزين، ويغدو العالم فارغا، أو كما يقول جبران:

هل اتخذت الغاب مثلي

منزلاً دون القصور

فتتبعت السواقي

وتسلقت الصخور" ..

في اللوحة تقف المرأة ، كما يبدو على منحدر، مودعةً شخصاً ما أو حلماً ما، أمامها شخص تودعه لآخر مرة " حسب ما يقول العنوان" ووراءها هُـوِّة سحيقة بعدها تسلسل جبلي، كل جبل وراءه جبل، أمامها ضياع وخلفها ضياع. هي تنظر إلى الأعلى، فقد أصبح من تودعه أعلى من مستوى نظرها، لكنه متحرك وهي ثابتة، هو سيذهب وهي باقية.

 هي تتشبّث بالزجاج الفاصل بينهما، توجِّه نظرها في اتجاه خلف الجزء المقفل من الزجاج، وهو يتحصّن وراء زجاج خفيف، هي تمسك بحافة ذلك الجزء قبل أن يقفله ويمضي. كلّها لهفة وشوق نقرأ كل مشاعرها في وجهها وملامحها، وهو غائب لا نعرف شيئا عن ملامحه وأشواقه، هي تقف وحيدة في الخارج ليس معها أحد، وهو بالداخل، وبالتأكيد ليس وحده في تلك الحافلة.

وإذا كانت الزاوية التي يقف فيها المصور تشكِّل موقفاً، وإذا تصوّرنا الرسام هنا مصوّرا، فهو رغم إنه يقف خلف أو بجانب الشخص المودَّع، ضمن المجموعة التي ستغادر في الحافلة، لكنه يظهر تعاطفاً كبيرا معها، فهو يركز لقطته كلها على تسجيل الموقف الذي هي فيه، تصوير حالتها، نقل الرسالة التي تقولها عيناها وكل ملامحها، وكأنه ما جاء إلى هنا الا لينقل لنا هذه الرسالة ويصنع هذه اللوحة المدهشة ..

تجدر الإشارة في الأخير إلى أن هذه اللوحة أصبحت لوحة غلاف لديوان الشاعرة أحلام الدميني: "أبجدية امرأة في الحب، إلى رجلٍ يقرأني الآن"، وهذا أضاف للوحة أبعادا دلالية أخرى، ناقشناها باقتضاب في إحدى فعاليات الاحتفاء بالديوان ..
متعلقات